اليوم الخامس


اليوم الخامس


لم يكن أسعد أيامي قطعا حينما كلفني المساعد الأكاديمي بالإشراف على مقرر التربية العملية، قدمت شتى المبررات والأعذار التي تجعلني غير صالح للإشراف على هذا المقرر، فأنا لم أعمل كمعلم مدرسة من قبل، خبرتي كلها كانت في العمل مع الأكاديميين ومدرسي الجامعات، وفي المرات القليلة التي قدمت فيها تدريبا لمعلمي المدارس، كان حول الصفوف الافتراضية وإدارة التعلم عبر الانترنت، أي كيفية التعليم بعيدا عن المدرسة، لا خبرة لي في العمل المدرسي، بالإضافة فأنا لا أملك سيارة خاصة، والإشراف على التربية العملية يتطلب التنقل للإشراف على الطلاب في المدارس الواقعة في نطاق سكنهم، في قرى وضواحي رام الله تحديدا، وهو أمر شاق بدون سيارة خاصة، والأولى بتدريس المقرر زملائي الذين يملكون سياراتهم الخاصة، والذين يملكون خلفية في العمل كمعلمين في المدارس الحكومية.


إلا أنه كان قاطعا، التربية العملية هي الحل الوحيد لاكتمال نصابي من العبء التدريسي، أو العودة للعمل الإداري، خياران كلاهما مر، خصوصا أنني قبل أشهر قليلة هربت من منصبي كمدير في أحد مراكز الجامعة، تقديري الشخصي أنني لا أملك المهارات الإدارية الكافية، لذلك كان قراري العودة للعمل الأكاديمي، الاسترخاء بين المحاضرات والنقاشات العلمية مع الطلاب، لكن ذلك على ما يبدو لم يكن متاحا.

في قرارة نفسي أتخذ رفضي للتربية العملية أبعادا أخرى،  فتاريخي الشخصي مع المدرسة محمل بالكراهية، سنوات عمري الأولى التي قضيتها في مدرسة افتخر مديروها على الدوام بالنظام والشدة، جعلت من المدرسة دوما مرادفا لمعاني السجن والقهر والعبودية، حتى أصبحت تلك الرائحة المميزة للمدارس (التي هي غالبا خليط من الغبار وعرق الأطفال وبقايا طعامهم) مصدر استياء لي، تجنبت على الدوام دخول المدارس إلا في مناسبات نادرة، كنت حتى في حيي القديم اتجنب شارع مدرستي القديمة، مشهد الطلاب وهم منطلقون بعد المدرسة كطيور تحررت أخيرا من أقفاصها  هو مشهد عميق الدلالة بالنسبة لي.

أتذكر في إحدى المرات النادرة التي ذهبت فيها لمدرسة، لمساعدة أحدى طالباتي في مشروع لها في انتاج فقرات تعليمية مصورة، أعدت الكاميرا والاضاءة المناسبة، إلا أنها كانت ترغب في مساعدتي للخروج بالأمر على نحو أفضل، لم أجد مبررا للرفض، إلا أنني ما اصبحت داخل الصف، مشهد الطلاب وهم يتابعون الاعدادات للتصوير بنظرات خالية من الفهم لما نقوم به، تعليمات المعلمة الصارمة  أعادت لي الكثير من الذكريات السيئة، أصبت فعليا بالغثيان وهربت من المدرسة بعد دقائق.

مشهد آخر من عملي في مشاريع التعلم الالكتروني، كان المطلوب مني خلال ندوة عقدها المركز الذي أعمل فيه أن أسوق احد التوجهات لمجموعة من مدراء ومديرات المدارس، وكنت الأكثر خبرة بطبيعة العمل وقدمت عروض مشابهة لعدة كليات جامعية، وكانت النتيجة دائما ايجابية، وبعد انتهائي من العرض والدخول في النقاشات، كان للجمهور استفسارات كثيرة حول تفصيلات العمل ومدى ملاءمته للعمل المدرسي، وفوجيئ زملائي بمدى ضعف حجتي وترددي في الإجابة على التساؤلات المطروحة، وانتهى اللقاء بعدم اقتناع السادة الحضور بالفكرة وعدم رغبتهم في المشاركة، تحججت بعدم التحضير الجيد، إلا أنني في قرارة نفسي عرفت أنه مازال الخوف الطفولي من مديري المدارس، كان الذهاب لغرفة المدير يثير رعبنا أكثر من حكم بالإعدام.

المطلوب مني إذا هو قضاء يوم أسبوعيا في هذا المناخ الذي لا أطيقه، مهمة صعبة، والأكثر  صعوبة هو أنني لا استطيع الاعتراف بحقيقة مشاعري نحو المدارس لمن حولي، نصحني زملائي بالتجربة لمدة فصل دراسي والحكم بعدها إذا ما كنت سأستمر في الإشراف على طلاب التربية العملية، وإذا رفضت حينئذ سيكون لرفضي مبررات موضوعية.

أكثر ما شجعني هو النصيحة من مستشاري الروحي، أبي، كان كلامه منطقيا وقاطعا، فعملي كتربوي سيظل نظريا بعيدا عن الواقع إذا ما نقصتني الخبرة بالعمل المدرسي، يقدم لي المقرر فرصة من وجهة نظر أبي لسد ذلك النقص في مجالي المهني، أما أمي فتذكرت ضاحكة خشية الطلاب المعلمون لذلك الرجل الذي يأتي لاختبارهم، ويجلس في المقعد الأخير في الصف ليقيم اداءهم، وكيف كانوا يغرونهم بالحلوى ليبقوا مطيعين ومتجاوبين أثناء تلك الزيارة، كان مصدر فخر لها أن يحل أحد ابنائها في ذلك المقام الرفيع.

ولأن لا شيء يحدث إلا بتدبير مسبق، ولأن لله حكمة في كل ما يمر بنا من أحداث، تزامنت بداية تدريسي للمقرر مع مشاركتي كباحث في أحد المشاريع التي تتطلب تدخل مباشر في الواقع المدرسي، عملت فيه مع مجموعة من الزملاء الباحثين الأكثر خبرة مني، ونخبة من معلمي المدارس الفلسطينية من مختلف المناطق، وكأن الله قدر لي أن تنضج أفكاري بمساعدة ما يزيد عن أربعين معلما خلال هذه الفترة القصيرة، لم يتوانوا لحظة في تقديم عصارة خبرتهم الذهبية، كل الحيل والمفصليات، من وجهات نظر متعددة، ويعلم الله أنني بدون خبرتهم لما استطعت أن أقدم شيئا ذا مغزى لطلابي.

وهكذا، متوكلا على الله، ومسلحا بخبرة زملائي وأفكاري الخاصة، ومحبة طلابي وثقتهم، انطلقت في تلك الرحلة الشيقة التي أرجو من الله أن تستمر حتى آخر عمري، والتي أقدم في المقالات التالية مشاهد منها أوجز فيها العديد مما تعلمته مع طلابي خلالها.

0 التعليقات :

إرسال تعليق