أصول علم التعليم الجديد (1) الأصول النفسية ودلائل من علم الأعصاب


 علم التعليم الجديد.. هو أن تفعل الشيء الأصعب بالطريقة الأكثر متعة..

وما هو أصعب من تطوير المهارات النقدية والإبداعية للطلاب! أن تجعل من كل درس فرصة لتطوير قابليات الطلاب إلى الحد الأقصى الذي تسمح به قدراتهم، أن تبني دروسك ومنهاجك على شكل سلسلة من الخبرات التعليمية التي تمكن الطلاب من استثمار طاقاتهم للحياة والنجاح في عالم المستقبل، وبناء معرفة ذاتية تمكنهم من مواصلة التفوق الأكاديمي، وتنتظم تلك المهارات والخبرات التربوية تحت العديد من المداخل مثل التعلم المتمحور حول الطالب أو التعلم الأعمق أو تعلم مهارات القرن الحادي والعشرين أو  أيا من تلك المسميات الرائجة المميزة لأشكال التعلم الحديث، وسنحاول في هذه السلسلة من المقالات أن نبين الأصول أو الأسس العلمية والمعرفية التي تقوم عليها هذه المداخل.

وتقوم سلسلة المقالات، التي نبدأها بالبحث عن الأصول النفسية المؤسسة للتعليم الجديد، والأدلة من علوم الأعصاب على ضرورة التحول نحو أشكال التعلم الحديثة، تلك المقالات مبنية على فرضيتين أساسيتين:

الأولى: هي أن أشكال التعلم الحديثة ليست مجرد تطوير لما كان سائدا، وإن كانت لا تمثل قطيعة معرفية مع النظريات السابقة، حيث يمكن إيجاد بذورها أو تفسيرها من خلالها، إلا أنها تقوم على أسس مغايرة للنماذج القديمة للتدريس والتعليم، والتي للأسف مازالت سائدة في مدارسنا، هي بالية وغير صالحة، بل ومضرة للطالب والمعلم على حد سواء، إلا أن ضررها على الطلاب أشد وقعا، حيث تؤدي في الغالب إلى تدمير قابلياته ومهاراته.

الثانية: إن توظيف أشكال التعلم الحديثة تتطلب بلا جدال من المعلم والطالب على حد سواء جهدا عقليا يفوق الشكل التقليدي الروتيني الممل للتدريس، إلا أن هنا تكمن روعته ومتعته، حيث تتحول الأوقات الصفية إلى لحظات حية يعيشها بعمق المعلم والمتعلم، ويتطورون من خلالها، أو كما تقول أ. فاطمة هداري  "أنت لا تعلمهم فقط، إنما تبني لهم ذكريات"، ولك أيضا.
وسنستند في مقال اليوم إلى مجموعة من الدراسات والأبحاث الجديدة في مجال علم الأعصاب وعلم النفس ذات الصلة المباشرة بعملية التعلم، والتي أسهمت إسهاما مباشرا في تطوير نماذج التعلم الحديث، ولن نتطرق مطولا إلى التفاصيل العلمية الدقيقة بقدر ما سنستعرض الخلاصة النهائية لما توصلت إليه الأبحاث، وانعكاس ذلك على العملية التعليمية.

جاردنر  H. Gardner...الذكاءات المتعددة Multiple Intelligences 
يمكن القول أن ما قدمه جاردنر من نتائج من دراساته حول الذكاء، هي نقطة التحول من النموذج التقليدي في التعلم إلى النموذج الأحدث، والمنطلق الرئيس أو محصلة دراسات جاردنر هو أن الأطفال يولدون بقابليات ذهنية متباينة البعض منها قوي والبعض الآخر ضعيف، والتربية الفعالة هي التي تعمل على تنمية هذه القابليات، وبالتالي ليس هناك نموذج واحد محدد للعملية الذهنية، بقدر ما يطور كل فرد عملياته الذهنية بشكل مستقل، وبالتالي فالذكاء أو النشاط الدماغي ظاهرة متعددة الأوجه والتطبيقات، وليس ذات مسار ثابت يجب على الجميع اتباعه كما كان في النموذج الكلاسيكي، مما يتطلب منهجيات مختلفة وطرق متعددة لتنمية المعارف والمهارات وتطوير القدرات والخيال ومعالجة المعلومات، ويقترح جاردنر ثمانية أنواع من الذاكاءات (المنطقي الرياضي، اللغوي، البصري......).
شكل 1: أنواع الذكاءات المتعددة عند جاردنر

وعلى الرغم مما مثلته نتائج جاردنر من فتح جديد في علم التعليم، من التصور الواحدي للمتعلم إلى التنوع والثراء في شخصياتهم وقابلياتهم المعرفية،  إلا أن التطبيقات التربوية لنظرياته شابها بعض القصور في جانبين، الأول هو التركيز في توظيف الذكاءات المتعددة التي طرحها على كيفية ملائمة المادة التعليمية للتباين بين المتعلمين، أكثر منها توظيف المادة التعليمية لتطوير هذه الذكاءات، وعلى الجانب الآخر فمازالت الاستراتيجيات التعليمية القائمة على أحد أنواع الذكاءات المتعددة لم تثبت فعالية حقيقية على مدى واسع في الصفوف.

كوستا A.L. Costa...عادات العقل Habits of Mind
عادات العقل هي مجموعة من القابليات التي تميز السلوك العقلي الفعال لحل المشكلات واتخاذ القرار والتفكير الإبداعي، وهي بمثابة البوصلة الداخلية التي توجه العقل خلال استجاباته للمثيرات والعوائق في البيئة الخارجية، والتي توجه قرارات الفرد في حياته اليومية والمهنية، وتربط عادات العقل بين الذكاءات المتعددة والذكاء العاطفي، كما ترتبط عادات العقل بالسلوك الإيجابي المبادر إلى حل المشكلات وأخذ المبادرات على الصعيدين الشخصي والمجتمعي.

وقد تم إجراء ألاف البحوث حول عادات العقل وأهميتها في التعليم، وقد أثبتت البرامج المبنية على عادات العقل فاعلية هائلة في إنجاز الطلاب الأكاديمي، واتسم الطلاب وفق الدراسات التي أجريت حول هذه البرامج بالسلوك الإيجابي المبادر والقدرة على حل المشكلات، وتبني استراتيجيات مرنة للتعامل مع التحديات الأكاديمية، ودرجة عالية من التفكير النقدي والإبداعي، وبناء الأهداف الذاتية والقدرة على متابعتها.

شكل 2: عادات العقل عند كوستا

وتتسم الاستراتيجيات التعليمية القائمة على تنمية عادات العقل بالتنوع والمرونة، وتحويل الخبرات التعليمية إلى مواقف خبرة تنمي ثقافة التساؤل، إعطاء المتعلم مساحة للتفكير وتفسير الخبرات، وإتاحة بدائل مختلفة للمفاضلة بينها، والمهمات التي تتطلب عملا جماعيا وتعاونا بين الطلاب، وتعدد مراحل النشاط الواحد، والتخيل وبناء السيناريوهات المستقبلية وتوقع الأخطاء، وتحسين مهارات التواصل والعرض، والوصول إلى مصادر المعلومات، والتفكير النقدي، وتخطيط المبادرات وتنفيذها، والانفتاح العقلي.

وتشكل عادات العقل واحدة من أسس بناء البرامج الأكاديمية للأطفال في العالم، ويمكن القول أن واحد من أهداف المناهج في القرن الحالي هي تنمية عادات العقل، في المواد الدراسية المختلفة.

تشيكزينمهاي Csikszentmihalyi ...الانخراط الوجداني
تنطلق نظرية تشيكزينمهاي في التعلم من نتائج دراسات علماء الأعصاب في العشرين عاما المنصرمة أن العقل الإنساني يحفز (عادة بشكل غير واعي) على المستوى العاطفي قبل أن ينتقل للمستوى العقلي، إذا ما كان العقل سيميز شيء ما على أنه مهم، فيجب أن يكون واعيا أولا بأهميته العاطفية، الرسالة "نحن نشعر لذلك نحن نتعلم" تقترح أنه لكي نحفز الجهاز العصبي في عقول المتعلمين فإن على المعلم أن يقدم مواقف ذات صلة عاطفيا.
ومن بين الحالات التي يحدث فيها التعلم، فإن "حالة التدفق" هي الحالة المثلى للتعلم، وتصف حالة التدفق الخبرات التي يحظى فيها المتعلم بالتركيز على المهمة بين يديه، وإحساس عميق بانخراط الوعي والفعل، إلى الحد الذي يفقد فيه الطالب الإحساس بالزمن، مع الإحساس بالسيطرة على المهمة والاستمتاع بالعمل، والمعلمون الذي يعظمون الأنشطة المولدة للتدفق في صفوفهم، هم أيضا يعظمون تعلم الأطفال.

المنهاج القائم على استثمار حالة التدفق يتطلب تخطيط سلسلة من الأنشطة القوية التي تكتسب أهمية عاطفية، والتي لا تتطلب تكون مذهلة أو فوق العادة، ربما تكون قراءة قصة جيدة، أو زيارة إلى ساحة المدرسة أو تمثال محبب للأطفال، أو رحلة لمتحف أو مسبح أو حرش قريب، لا تتطلب أن تكون في بداية دراسة مقرر أو موضوع ما، ربما تأتي في منتصف العمل أو حتى كتلخيص لوحدة، من شأن تلك الخبرات أن تصنع روابط قوية مع حياة ومشاعر كل من المعلمين والطلاب، وتتطلب تطبيق المعرفة والمهارات من مواد دراسية مختلفة.

وتشير الدراسات أن أنواعا معينة من النشاط بطبيعتها تثير التدفق، مثل الأنشطة التي تتضمن جوانب الفن أو التصميم، أو تلك التي تتضمن انخراط واستكشاف جسدي، والتي تعتمد على الحواس المختلفة في استكشاف خبرات العالم وما يثير اهتمام الأطفال، لذلك يجب أن تتركز خبرات المنهاج على دمج هذه العناصر في أي خبرة تعليمية.


شكل 3: تصور حالات التعلم (كلما كان التحدي أكثر صعوبة والمهارة في أعلى أداء لها، نشأت حالة التدفق وهي الظرف الأنسب للتعلم، وإذا كان غير ذلك تنشأ الحالات الأخرى والتي تعيق التعلم)

دويك Carol Dweck...عقلية النمو Growth Mindset
تدور النظرية حول مصطلح أساسي وهو العقلية Mindset، والتي تعني معتقدات الفرد حول قدراته، والحقيقة الأساسية التي انتهت إليها هذه الدراسات هو أن بعض الطلاب لديهم "عقلية ثابتة" عن قدراتهم العقلية، أي أن لكل فرد قدر "ثابت" من القدرات أو المهارات العقلية، في حين أن البعض الآخر لديهم "عقلية النمو"، أي أنهم يؤمنون أنه يمكن لقدراتهم العقلية أن تنمو من خلال بذل الجهد والتعلم والإخلاص في العمل، ومن خلال إشراف معلمين، لا يعني ذلك أن كل البشر متشابهين أو متساويين في القدرات العقلية، "أو أن أي أحد يمكنه أن يكون آينشتين، لكنهم يعرفون أنه حتى آينشتين لم يكن كذلك لولا السنوات الطويلة من العمل المتفاني".

إلا أن ما يجعل لهذه النظرية أهمية خاصة على صعيد التعليم، هي أن العقلية، سواء عقلية الثبات أو النمو، هي محصلة لعملية التعليم، فمن خلال عمليات التوجيه والتعليم التي تقدم للطفل في البيت والمدرسة معا، تنمو عقليته بتلك الطريقة، وبالتالي فإن عقلية النمو ليست شيء يولد به الأطفال، وإنما يتعلمونه من المدرسة والأهل، وأن أي عملية تعليم لا تضع في اعتبارها تنمية عقلية النمو عند الأطفال، إنما هي بمثابة هدر لطاقات الطلاب وقدراتهم.

وتساعد الاستراتيجيات التعليمية التي تتضمن تعزيز عقلية النمو الآلاف من الطلاب، وخصوصا الذين يعانون من ضعف أو مشكلات دراسية، على بذل المزيد من الجهد، والقبول بتجربة استراتيجيات متعددة للوصول إلى أهدافهم، وقد تم تأسيس مئات البرامج الأكاديمية في المدارس عبر العالم، والتي تقوم على تطوير عقلية النمو لدى الطلاب، مما أسهم بشكل كبير في إحداث تطورات كبيرة في إنجازهم الدراسي، على المدى البعيد.

سيمنز George Siemens...الترابطية connectivism
تقوم الترابطية على تفسير النتائج الجديدة للدراسات حول الجهاز العصبي، وخصوصا سلوك الجهاز العصبي أثناء التعلم، وبدلا من التصور الاستاتيكي القائم سابقا حول أن كل جزء من الدماغ يؤدي وظيفة محددة، فإن التصور الحالي أن أجزاء المخ المختلفة تنشط خلال عملية التعلم بشكل تفاعلي (يشبه أداء الأوركسترا) حيث يعتمد كل منها على الآخر في اداء مهمته، وتؤكد دراسات الترابطية على أن التعلم يحدث ليس نتيجة اكتساب معرفة جديدة، ولكن عندما يقوم العقل بالربط بين المعلومات المختلفة، وأن هذا الربط هو ما يؤدي إلى تطور الخبرة والنضوج أي التعلم، ويشبه المخ هنا بأجزاء الكمبيوتر غير المترابطة، ويقوم التفكير بإيجاد تلك الترابطات بينها حينما يقوم بعمليات التشبيك بين المعلومات المختلفة.

ويرى منظرو الترابطية أنها نظرية التعلم الأكثر ملائمة للتعلم في العصر الرقمي، فمع التزايد الضخم في عدد البيانات التي يمكن الوصول إليها، تركز الاستراتيجيات الترابطية على قدرة المتعلم على البحث عن المعلومات وترشيحها وتحليلها وإقامة علاقات بينها، والتعبير عنها بصور جديدة وغير مألوفة، كذلك ضرورة اتسام المتعلم بالقدرة على التكيف مع بيئات معرفية متغيرة باستمرار، والقدرة على التعامل مع الفوضى والربط بين الاهتمامات المعرفية والشخصية المختلفة، ويكمن التعلم في تحليل تلك العلاقات وإعادة تركيبها، والتنوع بين التعلم الذاتي والتعلم مع المجموعات الصغيرة والكبيرة، والسيطرة على الأدوات التقنية اللازمة لتعلمه.

وتولي الترابطية أهمية خاصة لدور اللغة في التعلم، لا كمادة مستقلة، لكن كأداة للتفكير في سائر الموضوعات، وبالتالي فإن تدريس اللغة يجب أن يكون من خلال الاحتكاك الفعلي بالواقع، واستخداماتها المختلفة في الموضوعات الدراسية المتباينة، حيث يمكن لكل طالب تطوير أدواته ومفرداته المستقلة، مع إعطاء أهمية لدراسة النماذج الإبداعية وتطوير أشكال التعبير الإبداعي.

كاوفمان James C. Kaufman.. الإبداع والممارسة الإبداعية Creative Practice
يعد كاوفمان واحد من أهم من درسوا الإبداع في السنوات الأخيرة، وتحظى دراساته بقبول واسع بين المتخصصين، وتشكل أساسا للعديد من الدراسات المعاصرة حول الإبداع، ويقدم كاوفمان بروفايل واسع لتعريف الإبداع اعتمادا على عناصر أربع هي: العملية أو الخطوات التي يتم اتباعها وصولا لمرحلة الإبداع، وخصائص المنتج الإبداعي، وسمات الشخص المبدع، والمكان أو الزمان الذي يتم فيه الإبداع.

ولعل النقطة الأكثر أهمية في إسهامات كاوفمان للتربية، هي ما قدمه من تمييز بين أربعة أشكال للإبداع:
 الإبداع: وهو ما يتطلب جهد مكثف ومتواصل في مجال بعينه لفترة طويلة من الزمن، وتتميز نواتجه بخصائص معينة غير قابلة للتكرار (الملحن الذي يؤلف مقطوعة موسيقية خالدة)
الإبداع في الحياة اليومية: وهو ما يجعل المرء يمارس أنشطته اليومية بشكل متميز ومرضي (الشخص الذي يعرف كيف ومتى يوظف هذه المقطوعة ليحظى بانتباه أو سعادة الآخرين)
الإبداع المهني: وهو ممارسة العمل بدرجة عالية من الاحترافية (الموسيقي الذي يقدم المقطوعة في حفل فني بدرجة عالية من الجودة)
الممارسة الإبداعية: وهي الجانب الأهم لأن من خلالها يتم تعلم الإبداع (الطالب يفهم المقطوعة الموسيقية ويحاول تقديمها من وجهة نظره)

ويرى كاوفمان أن الممارسة الإبداعية هي أساس الوصول للأشكال الأخرى من الإبداع، لأنها هي العملية التي يتم من خلالها تعلم الإبداع وتشجيعه ومكافأته، لذلك يرى أن التعلم داخل الصف لابد أن يركز على ممارسة الأطفال لإبداعهم من خلال توظيف موضوعات المناهج المختلفة في إنتاج أعمال خاصة بهم تعبر عن ذواتهم، وبالتالي تصبح عملية التعلم بأكملها موجهة نحو الإبداع.

وينتهي كاوفمان إلى نتيجة هامة مفادها أن ليس كل شخص يصل إلى درجة الإبداع، إلا أن التركيز على الممارسة الإبداعية للمتعلمين، تزيد من درجة انخراطهم في عملية التعلم، وترفع كفاءتهم الأكاديمية وقدرتهم على الإنجاز الدراسي، وتجعلهم قادرين على التأقلم مع البيئات المختلفة للدراسة والعمل وتطويرها، وتساعدهم على اكتساب الحس بالاستقلال الذاتي والمسؤولية الشخصية والمجتمعية والمبادرة وتحقيق الذات.


من خلال العرض السابق، قدمنا مجموعة من النظريات الحديثة، التي أسست لواقع جديد ومختلف لمفهوم التعلم الصفي، وقدمت أهدافا جديدة وطرقا مغايرة للتربية، لتحقيق التفوق الأكاديمي للقاعدة العريضة من المتعلمين، مع اتساع مساحة الممارسة الإبداعية، وتحويل الخبرات التعليمية إلى مجال حقيقي لتطوير قدرات الأطفال واليافعين وقابلياتهم إلى الحد الأقصى، ينمي الطلاب من خلالها مهاراتهم ضمن سياقات حياتية وخبرات معاشة.

0 التعليقات :

إرسال تعليق