اليوم الخامس: عن خرافة الطالب المتوسط

 نحو ممارسة علمية للفروق الفردية

ينغص خاطري عبارات يقدمها المسؤولون من نوعية "الامتحان في مستوى الطالب المتوسط" أو "خبرات المنهاج في مستوى الطالب المتوسط"، أي نظام تعليمي هذا الذي يسعى لانتاج أنصاف موهوبين وتخريج أنصاف متعلمين! الطالب المتوسط هو خرافة تعشش في أذهان المتبجحين من الرسميين والمتنطعين من التربويين والأكسل بين المعلمين، لا وجود للطالب المتوسط إلا في تصوراتهم التي يحاولون فرضها على الواقع وعلى الآخرين، الدرس العملي الأول في قيادة السيارة، وقد خضت العديد من هذا الدرس الأول، أن السيارة ستتوجه حيثما تتوجه عيناك، فإذا كان هذا هو كل ما يسعى إليه واضعي المناهج، فلن يتحقق ما هو أكثر من ذلك، إلا على شكل حالات فردية.

وينبع ذلك الاعتقاد من التقسيم الذي يعتنقه الكثر من التربويون والمعلمون، يكاد يكون الأسلوب المعتمد رسميا، وهو تصنيف الطلاب إلى ثلاثة مستويات (متقدم، متوسط، ضعيف) والتعامل مع كل مستوى بحسب احتياجاته، لذلك فليس من المستغرب أبدا أن تجد ضمن خطة الدرس في دفتر التحضير في خانة الوسائل أو التنفيذ العبارات التالية بتنويعات مختلفة ولكنها تؤدي جميعا إلى نفس المعنى:
المستوى المتقدم: شرح الدرس
المستوى المتوسط: شرح الدرس مع استخدام خبرات بصرية
المستوى الضعيف: شرح الدرس مع استخدام خبرات محسوسة

وغني عن البيان أن المشهد الدراسي لا يسمح بتنفيذ تلك الاستراتيجية، فلا الوقت ولا الامكانات تتيح للمعلم أن يمارس ذلك، وفي الكثير من الأحيان هي مجرد عبارات لا تتجاوز نطاق الحبر المكتوب بها، أو يتم تنفيذها بشكل سطحي وغير مؤثر، ودائما ما  احذر طلابي من اتباع هذه الطرق لأسباب عدة:

أولا: لأنها آلية لا أخلاقية، فدورنا كمعلمين "التشخيص" وليس "التصنيف"، وخصوصا أن تلك الأحكام التي نطلقها على طلابنا تكتسب بمرور الوقت وتداولها بين المعلمين في الصفوف والمباحث المختلفة صفة الأحكام القطعية (فلان ضعيف في الرياضيات، فلانة لا تستطيع الحفظ إلا إذا جعلتها تكتب القطعة عدة مرات......)

ثانيا: أنها قائمة على معيار واحد وحيد، وهو درجة أو علامة الامتحان أو الامتحانات المختلفة، ومدى قدرة الطالب على التمدرس، بالمعنى الحرفي للكلمة، أي البقاء لساعات طويلة في المدرسة، الانصياع لكل ما يصدر عن المعلم من تعليمات، الالتزام الحرفي بمنهاج أو كتب تتناول مباحث تعليمية بعينها، اتباع أعمى غالبا لاجراءات أو طرق تدريس محددة، ومن المعروف في نظامنا التعليمي ارتباط الامتحان بالقدرة على الحفظ "الصم" حتى الأسئلة التي تقيس مستويات تعليمية أعلى، تتحول هي الأخرى إلى حفظ مجموعة من الاجراءات، تلك الطريقة في التعلم قطعا لا تناسب كل الطلاب، ولا أبالغ إذا قلت أنها تقضى على كثير من فطرة التعلم لدى معظمهم، وتحولهم إلى كائنات مدرسية، تقتات على فتات ما يقدمه المنهاج

ثالثا: حتى لو فكرنا بذلك المنطق، فهي أيضا أنها غير مفيدة، فلا هي تتيح للطالب المتفوق المزيد من الإبداع، ولا هي تسمح للطالب المتوسط بارتفاع مستواه، أنها فقط تسمح له بمتابعة الدراسة على نفس المستوى في أحسن الأحوال، هي فقط تسمح للطالب بالاستمرار على المستوى الذي قررت أنه ينتمي إليه.


الغريب عند مناقشة تلك الأفكار مع المعلمين، يعترف معظمهم بأنها طريقة غير عملية، إلا أنهم دائما ما يسوقون الحجة الدامغة "ولكن هذا التقسيم ضرورة ، وإلا كيف يمكن لي أن اتعامل مع الفروق الفردية في الصف؟" حسنا دائما ما يكون ردي ما المقصود "بالتعامل" هنا؟، هل المقصود هو ابقاء الحال على ما هو عليه؟، لا أعتقد أن ذلك هو الرؤية الصائبة، الرؤية الصائبة هو الوصول بالجميع لمرحلة الاتقان، وفقا لمعايير أكثر مرونة وأكثر علمية
قدم لي العديد من زملائي حلولا عملية للتعامل مع الفروق الفردية، قامت احداهن في مجال التربية البيئية بتحويل المقرر إلى بحث اجرائي، قسمت الطالبات إلى مجموعات وقامت معهن بوضع قائمة بالمواضيع البحثية التي يرغبن في بحثها في البيئة المحيطة، ويشعرن أنهن قادرات على أحداث تغيير فيها، لم تدرسهن إنما دربتهن على كيفية اجراء البحث الاجرائي، حولت الحصص التقليدية إلى ما يشبه السيمنار، تناقش فيه الطالبات بعضهن بعضا حول طروحاتهن وأسئلتهن البحثية وأدواتهن، وفي نهاية الفصل الدراسي قامت الطالبات بعرض نتائج أبحاثهن، تم تقييمهن من خلال لجنة علمية، كما تم استخدام أدوات التقييم التقليدي، من خلال امتحان تشاركن فيه مع شعب أخرى درست وفق المنهاج التقليدي، بالطبع كان واضح التميز لصالح مجموعة البحث الاجرائي، تسمى تلك بطرق التعلم القائمة على البحث Research based learning

زميلة أخرى اعتز بزمالتها إلى أقصى حد، دعتني للمشاركة في تقييم لمسابقة انتاج أفلام تعليمية من انتاج طلابها، مجموعة من الشباب والصبايا الرائعين في الصف الثامن، ادعت أن ذلك من الهام الزمالة بيننا، خلال ساعتين تقريبا شاهدت مع لجنة التحكيم عشرات الفيديوهات لا يزيد أيا منها عن أربع دقائق، تناول كل منها مفهوما علميا محدددا (الثلج، الشيفرة الوراثية، الانقسام، البومة، البراكين............) من خلال توظيف كل الأدوات الفنية المطلوبة (الصور ، النصوص، التحريك، المؤثرات الصوتية والبصرية.....)، أمكن لمعظمهم أن يقدم تعريفا لفكرة فيلمه وطريقة العمل فيما لا يزيد عن دقيقة ، واجهت صعوبة والمحكمون الأخرون في الوصول إلى نتيجة نظرا للتقارب الحاد بين مستوياتهم......هل يمكن أن يكون هذا "حل" للتعامل مع الفروق الفردية؟، يسمى ذلك بالتعلم التحويلي Transformational learning ، وهو يعتمد على وصول المتعلم لدرجة من اتقان موضوع التعلم من خلال عمله على توظيف المعلومات في بناء منتج معرفي.

تلك حلول احترافية يمكن للمعلمون ممارستها بل واتقانها بشيء من الصبر والاطلاع والتدريب، أحاول دائما أن أحرض طلابي عليها لكن لا تسمح غالبا ظروف التدريب بتحقيقها، عادة ما أميل إلى تطبيق استراتيجيات تعتمد على عمل المجموعات باعتبارها الوسيلة الأنسب للتعامل مع الفروق الفردية.

"لا أريد أن استمر"
كان ذلك رد فعل هبة العصبي بعد أسبوع من التعامل مع الطلاب، لم تكن تقدر الوضع بتلك الطريقة، انهم متمايزون في كل شيء، هناك مجموعة من الطلاب يمكنهم دراسة الكتاب بمفردهم وغالبا لا يعيرون اهتمامهم بالكامل للحصة، بينما البعض الآخر  لا يستطيع حتى كتابة أسمه، البعض مشاغبون لا يستطيعون الجلوس لدقيقة، آخرون لا يسمع لهم صوت أو حتى لا تشعر بوجودهم في الصف، ومن خلال النقاش كان الحل الأفضل هو اللجوء إلى عمل المجموعات.
في معظم الأحيان، لا يسمح المعلمون المتعاونون لطلابي باستخدام عمل المجموعات، وغالبا ما يعتبرنها اضاعة للوقت تحت العديد من الذرائع والحجج "لقد جربنا هذه الطريقة ولم تفلح بسبب:
·        الصفوف مزدحمة ولا تصلح للعمل الجماعي، أو
·        الوقت المخصص للدروس غير كاف لعمل المجموعات، أو
·        الطلاب غير متعاونون ولا يقومون بعمل المطلوب منهم، أو
·        المنهاج لا يسمح بذلك، أو
·        لا توجد الوسائل اللازمة لذلك، أو
·        الإدارة لا تقدم التسهيلات المطلوبة، أو....
وغالبا ما تكون كل تلك الحجج مجتمعة، إلا أن خبرتي دائما ما تعطيني تفسيرات أخرى تبرر عدم نجاح عمل المجموعات، هي ببساطة غياب المهارة الكافية لدى  الكثير من المعلمين في إدارة عمل المجموعات، فغالبا ما يتم تكليف المجموعات بمهام لا تتسق مع طبيعة عمل المجموعات، مهمات ذات طبيعة فردية يتم تكليف المجموعة بها (مثل حل تدريبات الكتاب) أو عدم التوضيح الكافي لطبيعة المهمة (تقديم ارشادات غير كافية) أو عدم تقسيم العمل وتوضيح الأدوار داخل كل مجموعة........أو غير ذلك من الكفايات اللازمة لنجاح عمل المجموعات، وغالبا ما يستسلم المعلم أو المعلمة بعد أول أو ثاني مرة على أقصى تقدير.

بعد حوار مع المعلمة استطعت اقناعه خلالها بخوض التجربة، ساهمت المعلمة مع هبة في بناء الاستراتيجية المطلوبة، حيث تم الطلب من كل مجموعة أختيار  أحد أشكال الأحافير أو التراكيب الرسوبية، وبناء مجسم وعرضه أمام المجموعات الأخرى، وتم تقسيم العمل داخل كل مجموعة (قائد أو ميسر، الباحث عن المعلومات، تصميم النموذج، اختيار المواد وتنفيذ النموذج، العرض) كما تم خلال اللقاءات التالية الاتفاق مع الطلاب حول معايير تقييم العمل، وبعد الانتهاء من العروض تم تقديم امتحان للطلاب مباشرة، وكانت الفروق الفردية أقل بينهم أقل من أن تذكر، وبعد أسبوعين من خلال امتحان شامل لكل المادة، كانت اجابتهم على الأسئلة الخاصة بهذا الجزء هي الأفضل من كل أجزاء المنهاج، وأكثر ما اعجبني هو اعتراف المعلمة بأن الوقت المستغرق أقل بكثير من اللازم لطريقة التدريس التقليدية، واعترافها بشعورها بالمتعة من خلال فريق العمل الخاص بها هي وهبة، وكيفية تبادل الأدوار في ارشاد الطلاب خلال العمل.

حنان كذلك واجهت مشكلة في تعليم القراءة وفق الطريقة التقليدية للصف الرابع (تقرأ المعلمة ثم الطلاب المتقدمون ثم الطلاب المتوسطون وبالنهاية الطلاب الأضعف)، لاحظت أن ذلك لا يحسن مهارات الطلاب إنما "يثبت" مستواهم وفقا للتقسيم السابق، وأنه من المستحيل أن تخصص الوقت الكافي لكل طالب للتدريب على القراءة، ومن خلال عدة مشاورات استقر رأيها على تطبيق طريقة "القراءة الثنائية" حيث تقوم بتنظيم الطلاب في مجموعات من طالبين، يتبادلان القراءة والتصحيح، في البداية كان الأمر مربكا لها، إلا أنها استطاعت مع مضي الوقت وتشجيع المعلمة المتعاونة، أن تحقق تقدما.

أسعدني أن كلتيهما اتفقتا على أن تلك الطريقة بمثابة "فتحا" جديدا لهما في تعليم القراءة، طورت حنان بعد ذلك من خلال عملها في مدرسة خاصة أسلوب تنظيم مجموعات القراءة، وأصبحت تتقن ممارسة الإشراف على مجموعات، كما طورت أساليبها الخاصة في تكوين المجموعات، بما يسمح لها باكتشاف المشكلات في قراءة الطلاب وأساليب علاجها.


لا يمكنني الادعاء أن تلك هي الطرق الأفضل في التعامل مع الفروق الفردية، بالتأكيد هناك المزيد من الطرق والاستراتيجيات التي سأتعلمها مع زيادة خبرتي وعملي مع الطلاب والمعلمين، ولكن النتيجة الجوهرية أن الطرق الملائمة التي تسمح لكل طالب بالتعبير عن ذاتيته، والتفاعل مع أقرانه من أجل الوصول إلى أعلى مستوى تسمح له به مهاراته، وتطوير تلك المهارات وصولا لاتقان التعلم، وفقا لرؤية أكثر مرونة وشمولية لعملية التعلم.

0 التعليقات :

إرسال تعليق