اليوم الخامس: عن مهارة التصنيف


كثيرا ما يوجه لي السؤال من طلابي والمعلمين حول أيهما أفضل، الوسائل اليدوية التي يستخدمها الطلاب بأيديهم، أم الوسائل الالكترونية التي توظف الامكانات التقنية، ويتوقع الجميع أن أميل إلى النوع الثاني بحكم خبرتي الطويلة في إدارة أنظمة التعليم الالكتروني والتدريب على توظيف التقنيات في التعليم، دائما ما كانت إجابتي هي أن الوسيلة الأفضل هي التي تخرج الطالب من دائرة السلبية إلى دائرة الفعل، والتي تحول المعلم من البطل الوحيد إلى المتابع.

في العديد من المرات وجدت المعلمين يستخدمون جهاز العرض من الحاسوب، لعرض نسخة الكتاب على الحائط أمام الطلاب، أو حتى يستخدمون عرض تقديمي عليه نفس المعلومات والصور الواردة في الكتاب، أوجه لهم السؤال حول التكلفة المادية لجهاز الحاسوب وجهاز العرض، وكم من الوقت استغرقه عمل العرض، ليقدم لهم في النهاية نفس النتيجة؟ الكتاب بين أيديهم لماذا اتكلف كل هذه المشقة؟ البعض يجادل والبعض الآخر لا يعرف. إذا ما الحل؟ هل الوسائل اليدوية إذا أفضل؟

مرة أخرى..الوسيلة الأفضل هي الوسيلة التي يستخدمها الطالب ليخرج منها بمعرفة جديدة، ولكن ما علاقة هذا بمهارة التصنيف؟

تعد مهارة التصنيف أحد المهارات العقلية الهامة، التي تساعد الإنسان على تخزين المعلومات والتمييز بينها بشكل أفضل، وتعوده على بناء المعايير وتنقيحها واستخدامها في اطلاق الأحكام العقلية، والتمييز بين المناسب وغير المناسب، واكتشاف أوجه الشبه والاختلاف، وفحص الصفات ذات العلاقة والتمييز بين الصفات الأصلية والثانوية، والربط بين المفاهيم والأفكار المختلفة، وهي كلها خصائص أساسية للتفكير العلمي، ومثل أي مهارة أخرى  بحاجة للتدريب عليها.

أحد المناسبات الهامة هو الدروس المتعلقة بتصنيف الكائنات الحية، واعتبره أحد الدروس المفصلية لنمو عقل المتعلم، لأنه يؤسس لرؤيته الخاصة للكائنات الحية جيراننا في الكوكب من جهة، وعليه يرتكز كذلك اتجاهاته نحو علوم الأحياء والطبيعة والبيئة، كما أنها فرصة هامة لممارسة مهارة التصنيف وتطويرها على مدى زمني واسع، هو عدد الحصص المخصصة لهذا الدرس على امتداد سنوات دراسية مختلفة، لكن المشكلة تكمن في طريقة تقديمنا لهذا الدرس، حيث تُضيع طرق التعليم التلقنيي على الطلاب فرصة هامة لممارسة مهاراتهم وتحقيق النمو العقلي، أي أن التعليم التقليدي يتعدى هنا حدود عدم فائدته للمتعلم، ليتحول إلى أداة لإحداث الضرر أو الحد من نضجه العقلي.

تنبهت لهذه المقارنة خلال تقييمي لدرسين في نفس الأسبوع حول نفس الموضوع، تصنيف الكائنات الحية أو الممالك الحيوانية، كانت الحصة الأولى لطالبة أجلها كثيرا، أم لخمس أطفال وتعمل معلمة بالأصل، حاصلة على بكالوريوس في الأحياء وتدرس للحصول على مؤهل تربوي، قدمت الحصة في قاعة العرض، حيث قدمت من خلال الحاسوب الكثير من الصور المتنوعة للكائنات الحية، والعديد من الأمثلة على كل منها، وشرحت لهم بالتفصيل كل المعلومات الواردة بالكتاب، وعقب شرح كل جزء كانت تسأل مجموعة من الأسئلة عن معلومات الدرس، لفت انتباهي تحديدا السؤال التالي:
-          ما هو شكل السمكة؟
لم يجب أحد من الطلاب أو يتطوع لرفع يده
-          لقد درستم هذه المعلومة تحديدا في العام الماضي؟
-          مستطيل؟
-          لا، اجابة خاطئة...ـأي اجابات أخرى؟
صمت
-          انسيابي!!! كيف يمكن لكم أن تنسوا هذه المعلومة؟!!


من هذه النقطة انطلقت في نقاشي معها، لماذا برأيك لم يتذكر الطلاب هذه المعلومة؟ حاولت التبرير بدون فهم لما اقصده، لم يتذكروها لأن معلمة العام الماضي استخدمت نفس الطريقة عرضت الدرس بدون ربط للمعلومات بالواقع، حفظها الطلاب حتى الامتحان ومن ثم لم يعد لها فائدة بعد ذلك فتوارت في متاهات الذاكرة، لم تعد على السطح، اعدت السؤال، لماذا اعتبرت أن الاجابة (مستطيل) خاطئة؟ لأن جسد السمكة ليس مستطيل بل انسيابي، هل يمكنك أن تريني الفرق بينهما؟ تناولت ورقة وقلم وقامت برسم المستطيل، ثم قامت برسم جسد السمكة الانسيابي داخله، حسنا لو قمت بعمل ذلك مع الطلاب لترسخ المفهوم في أذهانهم بشكل أفضل، من الجيد دائما الاعتماد على أخطاء الطلاب لتقريب المفاهيم إلى أذهانهم.

انتقلت بعد ذلك إلى طبيعة الدرس، بدأت أسألها عن وقت الحصة كم استغرقت هي منه وكم استغرق الطلاب، وما كم المجهود الذي بذلته في مقابل المجهود الذي بذله الطلاب؟ بالتأكيد أن من يبذل مزيد من الجهد هو من يتعلم أكثر، فإذا كان جهد الطالب لا يقارن بما يبذله المعلم ذاته، فلا يمكن أن نحكم بأنه قد تعلم، هل تعتقدي أنهم استمتعوا بالدرس؟ نعم لقد كانوا صامتين تماما خلال الشرح، الصمت لا يعد دليل على المتعة، ربما في هذا الموقف هو دليل على النعاس مثلا، لكنهم كانوا يجيبون على كل أسئلتي، نعم يجيبون عليها مما رددتيه عليهم قبلها بلحظات ، هذا دليل على الاستظهار وليس الانتباه. لننتقل إلى السؤال الأهم، ما هي المهارات التي تطورت عندهم بناء على الحصة؟ كان هذا دورها لتصمت.

كل الاجابات على هذه الأسئلة وجدتها في حصة "وفاء"، كان ذلك أول عهدها بالعمل المدرسي، كانت دائما شغوفة بالتعلم النشط واساليبه ووسائله، وطرق بناء المتعلم للمعرفة، وعلى اقتناعي بتميزها توقعت أن تقف قلة خبرتها وصغر سنها عائقا أمام تحقيق ما تصبو إليه، لذلك لم اتوقع منها الكثير.

كانت حصة "وفاء" عن تصنيف الكائنات الحية أو الممالك الحيوانية تعتمد على اللوحات اللاصقة، حيث قسمت الصف إلى فرق وقدمت لكل فرقة لوحة لاصقة وبطاقات باسم كل مملكة (ثدييات، طيور، زواحف.......) ومجموعة متنوعة لصور متنوعة من الكائنات الحية لكل تصنيف، واسم الحيوان أسفل الصورة، الصور بعضها متشابه وبعضها مختلف بين فريق وآخر، ثم طلبت منهم أن يقوموا بتصنيف الصور وفقا للممالك الموجودة على البطاقات الخاصة بهم، بعد انتهاء ذلك طلبت من كل مجموعة أن تعرض أمام المجموعات الأخرى، بينما تقوم المجموعات الأخرى بالتصحيح، إذا كان التصنيف غير صحيح، مع مشاركتها وتدخلها أيضا من حين لآخر، وبالرغم من أنها رسمت طريقة محددة للعرض (اسم المملكة، ثم الحيوانات التي تنتمي إليها، مع الإشارة إلى كل صورة لتوضيح الفئة التي تنتمي إليها) إلا أنها كانت تسمح لهم بالخروج عن الطريقة لذكر معلومة (مثل خبرة سابقة له أو مشاهدته في برنامج تلفزيوني) أو السؤال عن الحيوانات الغريبة.


انتقلت بعد ذلك إلى ورقة عمل يحاول كل فريق من خلالها أن يستنتج خصائص كل فئة من خلال الصور وخبراتهم السابقة، وبعد ذلك عرضها والنقاش حولها، وبنهاية الحصة قامت بإعادة تقسيم الفرق إلى فرق أصغر، وطلبت من كل منهم أن يقوم باختيار أحد الممالك، وتجهيز عرض حولها لتقديمه أمام الصف في الأيام التالية.

يمكن أن أقول أن ذلك هو تطبيق لتوظيف دروس المنهاج من خلال التعلم النشط في صقل معارف الطلاب وتعميقها، من خلال ممارستهم للمهارات العقلية العليا. المحصلة أنك لن تصيب أبعد مما تهدف إليه، فإذا كان تركيزك على حفظ الطلاب للمعلومات، فيكفي أن تعيد عليهم المعلومات مرارا وتكرارا ليستظهروها، استخدام الصور في العرض قد يحسن عملية الحفظ، أما إذا ما كنت ترغب في ممارسة دورك الحقيقي كمعلم، فيجب عليك أن توفر الأنشطة والسياقات التي ينشط الطلاب من خلالها لشحذ مهاراتهم وتحقيق أقصى امكاناتهم.


0 التعليقات :

إرسال تعليق