اليوم الخامس: عن التأمل ويوميات المعلم


تقول أية في يومياتها:

                 "وبدأت أفكار الحصة الفوضوية تدور في مخيلتي ورأيت الفوضى والأصوات تعلو وهذا يقول أعطني مقص وآخر أريد لاصق وألوان، قدرت أن الحصة ستنتهي ولم ننجزز النشاط المقرر، وهنا بدأت بإعادة جدولة خطتي وقلبتها رأساً على عقب، بلحظة تسرع وخوفاً من الفوضى وضياع الوقت ذهبت مخططاتي في مهب الريح، أخذت القرار بأن أشرح وأعرض شرائح " البوربوينت" في البداية، ثم استخدام الوسيلة التعليمية بطريقة مختلفة عن ما خططت له بحيث يستخدمها طالب واحد في كل مرة على اللوح.
                 وخلال سير الحصة بدأت علامات الملل تظهر على أوجه الأطفال، شعرت بالندم وخيبة الأمل، وكل ذلك بسبب قرار متسرع اتخذته في لحظة تأمل وسرحان مع مخيلتي، ولـــم أفعل ما خططت له"

أحد العناصر التي اصبحت ألح عليها في تدريب طلابي هي كتابة اليوميات المهنية لعملهم كمعلمين خلال فترة التدريب، استغل أن معظمهم قد اعتاد كتابة يومياته الشخصية بشكل يومي أو متقطع في مرحلة من مراحل حياته، أما على المستوى المهني تعد اليوميات من أهم ركائز التطور عند المعلم، حيث تسمح للمعلم المهتم بمهنته بالتأمل في أحداث الدرس، واستنتاج أهم الأحداث أو النقاط المفصلية، سواء في نجاح الحصة أو فشلها، وبالتالي تسمح له بمراقبة تطوره المهني بطريقة منظمة.



على المستوى الشخصي، لجأت لكتابة اليوميات المهنية في حياتي العملية، خصوصا عند استخدام طريقة جديدة في مجال التدريس أو التدريب،  إلا أن أكثر المرات تأثيرا على تكويني المهني عندما بدأت استخدام طريقة الاستكشاف الجماعي في التدريس، طلب مني أن أقدم مساقا دراسيا في التعليم الالكتروني لمعلمين على وشك التخرج، اعتاد الطلاب على طريقة المحاضرات أو في أحسن الأحوال على التطبيق الفردي، أي أن يتم تدريبهم على طريقة أو أسلوب معين في العمل، ثم يقوموا بإعادة تنفيذه، كان ذلك تقريبا مناقضا لما أرغب في القيام به، حيث كان الهدف هو التوصل للمعرفة والأساليب الأفضل من خلال العمل الجماعي.

ما بعد التعارف والاتفاق على المنهجية، قسمت الطلاب لمجموعات وطلبت من كل مجموعة أن تستكشف واحدة من تطبيقات الانترنت (البريد الالكتروني، المدونات.....)، لم يزد اللقاء عن كونه كارثة، لم يتم انجاز أي هدف، لم استطع السيطرة على العمل داخل المجموعات حيث سادت النقاشات الجانبية، والتنظيم كان سيئا جدا وعشوائي، سادت الفوضى في أرجاء القاعة، وبالطبع لم يتحقق أي هدف من أهداف اللقاء.

احسست باحباط شديد، فكرت للحظات أن أعود لطريقة التدريس التقليدية، في التدريب مع أشخاص أكبر عمرا وأكثر خبرة لم يكن الوضع مشابها، تذكرت الحكمة التي أقدمها لطلابي ألا يرجعوا فشل الدرس دوما للمتعلمين، وهكذا بمصاحبة كوب من الشاي الساخن، قررت أن اكتب اللقاء بتفصيلاته باحثا عن المشكلة، اكتشفت أنني لم أقم بتنفيذ عمل المجموعات "حسب الأصول"، فأولا كانت لدي معرفة مسبقة بأن الطلاب غير معتادين على العمل الجماعي، من المهم هنا القيام "بمناورة"، تكليفهم بمهمة بسيطة تتطلب انخراطهم معا، كنوع من ترسيخ الممارسة الجماعية.

كذلك لم أقم بتحديد المهمة بشكل دقيق، مجرد تكليفهم "بالاستكشاف" ليس مهمة، الاستكشاف هو ما يحدث خلال تنفيذهم لمهمة محددة، بالاضافة إلى أنني لم أقدم لهم ارشادات لتأدية المهمة، ولم أقوم بتحديد الأدوار داخل المجموعة، وبالتالي أصبح الطالب المهتم أكثر من غيره هو المكلف وحده بالمهمة تقريبا، كما لم أقم بتحديد اطار زمني لعمل المجموعات، ولم أربطه بمنتج محدد يقدمه الطلاب.

وبناء على "تأملي" في اللقاء، أعدت تصميم المقرر كاملا، في بداية اللقاء التالي قدمت لهم استبيان حول طريقة عمل المجموعات، لم يحبذوا الطريقة حسب المتوقع، وأفادوا بأنهم لم يستفيدوا منها أي مهارة، ولم تزد عن كونها تضييع الوقت، ناهيك عن حدوث أي تعلم،  على مدار اللقاءات حاولت اصلاح الأخطاء التي وقعت فيها واحدا بعد آخر، محاولا الوصول إلى النتيجة المرغوبة، وعقب كل لقاء كنت أسجل ما أشهده من تغيرات وما أواجه من صعوبات، في نهاية الفصل اعدت تقديم الاستبيان مرة أخرى، كانت النتائج مختلفة، أفاد معظمهم أنهم سيستخدموا طرق العمل الجماعي في تدريسهم المستقبلي.

زادت قناعتي بأهمية اليوميات كأداة للتأمل، من خلال العمل مع  مجموعة المعلمين المشاركين بتدريب موجه نحو التعليم المتمركز حول المتعلم، أحد المشاركين من خلال خبرة تقترب من العشرين عاما كان قد طور أسلوبا رائعا في تقديم المحاضرات، لذلك كان من الصعب اقناعه بالتخلي عن أسلوبه القديم واكتساب طرق أكثر حداثة، اصراري على متابعته لكتابة اليوميات ساعد في النهاية على تحقيق التحول المطلوب

                       "من خلال درس (مسؤوليات أعضاء الأسرة) للصف الثامن، اعتقد أنني حققت بعض الشيء من الهدف وهو نقل الطالب من حالة التلقين                           والدرس التقليدي الى مرحلة التخيل في والتحليل، واجراء المقارنات، وكان الأسلوب مشوقا للطلبة والتفاعل أكثر من رائع

نلك كانت عبارة من يومياته يمكن أن تلمس منها مدى التحول من قناعة المعلم بقدرته على تحقيق الأهداف التعليمية في كل درس، لرؤية ترى أنه في حاجة لتلمس طرق جديدة تزيد من فاعلية تدريسه، خاصة بعدما تيقن من فعالية الأسلوب بالنسبة لطلابه، مقارنة بالطرق التقليدية، عند هذه النقطة تحديدا شعرت بحدوث التحول.

في البداية يصيغ الطلاب يومياتهم بشكل روتيني وآلي "شاركت في نشاط كذا" أو "تعلمت اليوم كذا" ، يتطلب ذلك نقاش أعمق للوصول معهم إلى النظرة المتأنية العميقة لما يقومون به، "هل أحببتي ما قمت به؟، لماذا؟ هل كان يمكنك القيام به على نحو أفضل؟ ماذا كانت مشاعر طلابك؟ حسنا..لماذا لم تذكري كل تلك التفصيلات؟"ابدأ في التيقن من أن الطريقة تؤتي ثمارها عندما أجد عبارات مثل "بدأت الحصة خائفة ومرتبكة، اقترحت على الطالبات أن ننشد اغنية الفصول الأربعة، غنيت وصفقت معهم، بدأت أشعر بالتأقلم أكثر، ازدادت ثقتي في قدرتي على تنفيذ الدرس كما تخيلته" أو "كان اليوم مزعج، فشلت في تقديم الدرس كما ارغب، اعتقد أن الوسائل التي استخدمتها لم تثر اهتمام الطلاب، والأنشطة أيضا كانت تقليدية ومملة"

    "هل يصلح عمل المجموعات للطلاب في الصف الثاني؟ كيف اضمن تحقيقهم للمطلوب؟ هل يستطيع الأطفال بناء مفاهيمهم باستقلالية وبناء معارفهم ذاتيا؟ كيف يمكن توظيف الوسائط مع الأطفال الصغار لدعم تعلمهم؟"

تلك مجموعة من الأسئلة التي صاغتها "فاتن" باعتبارها محاور لتجربتها في التربية العملية، وتلك عادة ما تكون بداية جيدة وهي الوصول إلى موجهات لعملية التأمل، مما يساعد على الوصول إلى صياغة "المشكلة" وطبيعتها وأبعادها، وتساعد اليوميات في الكشف عن المدى التقدم الذي يحرزه المعلم، كما تساعده على التعرف على الأخطاء التي يقع فيها في الاجراءات، وايجاد الحلول والمسارات البديلة، ومن خلال تطبيق العديد من استراتيجيات التعلم النشط يتستطيع في النهاية أن يصل لنتيجة ايجابية:

          "الدروس التي تعلمتها:
·           النشاطات الجماعية مفيدة جدا لتشجيع العمل التعاوني والاتفاق على توزيع الادوار بين افراد المجموعة الواحدة.
·         جعل التلاميذ يقومون يالعمل بانفسهم يجعلهم اكثر حماسا واكثر ثقة بانفسهم الى جانب اهمية هذا الامر في تنمية العضلات الصغرى لديهم.
·         النشاطات الجماعية مكنتني كمعلمة من امكانية ملاحظة التلاميذ اثناء العمل والعرض ومعرفة نقاط القوة والضعف عند كل تلميذ.
·         زادت هذه التجربة من خبرتي في مجال ادارة المجموعات الصفية.
·         التنويع في طرائق التدريس يجعل التلاميذ اكثر تركيزا ويقلل من حالة الملل التي قد تصيب بعض الطلاب.
·         استخدام الوسائط في التدريس يعطي نتائج افضل ويقلل من الجهد المبذول من قبل المعلم اثناء الحصة الى جانب كم المعلومات الكبير الذي يمكن اختصاره في دقائق قليلة" 


تتذكر ربا اليوم الذي عادت فيه يائسة من المدرسة،تعشق ربا الرياضيات كما تعشق مهنة التدريس، لكن عملها مع مجموعة من المراهقات صعب عليها المهمة، شعرت بعدم قدرتها على إيصال  الأفكار رغم استخدامها للعديد من الوسائل التعليمية، توجه لومها إلى مجموعة محددة من الطالبات تعيق كل جهودها، من وجهة نظرها لم يقدمن الاحترام الكامل لها كمعلمة نظرا لوجودها لفترة التدريب فحسب، لم يتبقى من فترة تدريبها سوى أيام معدودة حينما انفجرت في احداهن، عايرتها بانخفاض مستواها التعليمي وعدم قدرتها على التركيز في التعليم، وأنها لن تجد جامعة ذات مستوى يليق بها، زاد احساسها بالضيق أمام نظرة الفتاة المتحدية الباردة.

في تلك الليلة تحديدا بدأت ربا في كتابة يومياتها لتصب فيها غضبها على الطالبات، بعد عشرة صفحات تقريبا بدأت الصورة الكاملة تتضح في ذهنها، اصرارها في الحفاظ على مسافة من الطالبات لتتمكن من ضبطهن، بناء على نصيحة من المعلمة المتعاونة، لم يتسق تماما مع طبيعتها، انبأها حدسها أنها خسرت طالباتها من أول مرة أرسلت فيها احداهن إلى المديرة، قررت اتخاذ عدة قرارات لتغيير طريقة تدريسها، في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة ترتدي "رداء رياضي" تحت جلبابها، اعتذرت للطالبة التي واجهتها بالأمس أمام الصف واعترفت بأنها كانت المخطأة، واخبرتهن بأنهم ستقوم بتقديم هذا الدرس في ساحة المدرسة.

احترمت رغبة "ربا" في  احتفاظها بتفاصيل يومياتها لنفسها، هكذا اخبرتني بعد حصة رائعة، عملت الطالبات خلالها على تنفيذ مجسمات توضح فكرة "القطع الناقص " بهدف الوصول إلى طرق احتسابها رياضيا، كانت الحصة منضبطة وتعاونية إلى أقصى حد، أكدت ربا خلال نقاشنا بعد الدرس أنها ايقنت أنها خلقت فعلا لتكون معلمة، وأنها متشوقة إلى العمل بشكل نظامي مع الطالبات في تلك المرحلة العمرية، بعد أن اكتشفت كمية المرح والمتعة التي يمكن أن تكون عليها مهنة التدريس.

إن كتابة المعلم ليومياته بشكل مستمر تتعدى مجرد التسجيل الحرفي لأحداث يومه، فهو يرسخ من خلال ذلك إيمانه بقدرته على التطور المهني المطرد، بغض النظر عن الإطار الرسمي الذي تقدمه المدرسة، إنه يتأمل في ممارساته كما لو كان يشاهد فيلما سينمائيا بعيون ناقدة، متجاوز ا التفاصيل  السطحية نحو الأعمق من المشاعر والأفكار، إنه المعلم الذي لا يخشى الفشل ولا يعتبره نقيصة، يجرب طرق جديدة بقلب مغامر وعقل تاجر، ليحول من كل يوم له خبرة جديدة تضاف إلى سيرته المهنية.




0 التعليقات :

إرسال تعليق