الملك
والمعلم.... من يملك أن يطور التعليم؟ (1)
تطوير
التعليم قرار سياسي
تبدو
تلك المقولة واقعية وتؤكدها العديد من الشواهد في الدول التي حدث للتعليم فيها
طفرة، المنطقي والمعقول أن تحدد الدولة أي نوع من المواطنين ترغب فيه، ومن ثم يتم
بناء نظام التعليم الذي يسهم في بناء هذا المواطن، أمريكا قامت بذلك في الخمسينات
للحاق بالاتحاد السوفيتي في سباق الفضاء (تقرير أمة في خطر) وكذلك فعلت سنغافورة
وماليزيا وكوريا في الربع الأخير من القرن العشرين، والبرازيل في العقد الأخير من
القرن السابق وبدايات القرن الحالي، في كل الحالات الأخيرة كانت التطورات العظيمة
التي شهدها التعليم نتيجة لتحولات عميقة في نظام الدولة تجاه تبني سياسات العدالة
الاجتماعية، واستجابة لمشروع نهضوي شامل لكافة قطاعات المجتمع
في
المجتمعات التي تتبنى أنظمة غير حرة، تملك سلطة الحكم فيها تحالفات بين كل من
الطبقة المسيطرة سياسيا (رجال الحكم) والمستفيدين/المسيطرين اقتصاديا (التايكونز)،
لتشكل نخبة حاكمة تقبض على أطراف الدولة ومفاصل المجتمع، وهي معنية بتثبيت الوضع
القائم بما يضمن استمرار مصالحها، يصيب هذا نظام التعليم بالركود والترهل، ويتحول
المعلم إلى موظف لدى الحكومة، وتتضخم اللوائح وتسود الاجراءات على الفعل، ويصبح
المعلم محاصرا بقوانين ومناهج غير منطقية ولا وظيفية بالنسبة له، ويصبح الاتجاه
العام نحو التنميط، كل المعلمين يقومون بنفس الإجراءات في نفس الوقت بغض النظر عن
معقوليتها، هنا بالطبع لا نحلم ببناء مواطن فعال في المجتمع ولكن مخلوق
"بيروقراطي" منصاع اجتماعيا و"انتهازيا" يبحث عن الفرص التي
تقربه من الجهات الحاكمة أو التي تحقق له بعض المنافع الاقتصادية
يشكل
المعلمين في تلك الأنظمة مصدر تهديد حقيقي لجهات الحكم، فهو الأكثر قدرة على كسر
رتابة النظام السائد، لذلك يجب أن يكون حصاره محكما من خلال مجموعة أدوات تبقيه في
حالة من السكون:
حصار
معيشي: رواتب أقل من تأمين حياة كريمة تبقيه على التصاق بالمؤسسة كمصدر رزق دائم
"غير كافي"
حصار
وظيفي: من خلال تقارير السنوية ونصف السنوية والتقييمات و....و.....، والدعم
السياسي المركزي لمجموعات نقابية لا تمثل الهموم العامة للمجموع الأكبر من
المعلمين
حصار
مهني: تبني أنظمة تطوير مهني غير فعالة وغير شاملة، تبقي المعلم دون الحد المقبول
من الأداء، وتفقده الثقة في قدرته على احداث التغيير أو التأثير في الأجيال/
الفئات الأخرى
حصار
اجتماعي: نتيجة للظروف السابقة، ومع حالة الانتهازية/ الاستهلاكية السائدة في
المجتمع، تتحول فئة المعلمين إلى طائفة أقل من طبقات أخرى قادرة على التمتع بمزايا
استهلاكية أكثر
حصار
بيداجوجي: من خلال تبني مناهج تعليمية كثيفة ومتضخمة وأنظمة تقييم تقليدية وعقيمة
قائمة على الحفظ، تجعل من طرق التلقين السبيل الأمثل أمام المعلم
وفي
مقابل نظام التعليم الرسمي/ التقليدي القائم، تنشأ عشرات من مؤسسات التعليم الخاصة
التي تخدم أبناء الطبقات الأعلى في المجتمع، وتتبنى طرق ومناهج تعليمية حديثة
ومغايرة لما يقدم لعامة الشعب، وتصبح المعادلة القائمة هي أن من يستطيع إحداث
التغيير غير راغب فيه، بينما المعني بتحولات الوضع القائم غير قادر على الوصول في إحداث
فارق.
وفي
تلك الحالة يبقى التغيير رهنا بتغير في القرار السياسي وليس شخوص الحكم (وزير
التربية والتعليم على سبيل المثال)
لماذا
كمعلمين يجب أن نكون ضد الساسة؟
نادرا
ما يخلو خطاب لمسؤول أو متحدث حكومي في الشأن التعليمي من كلمات مثل التغيير
والتطوير والتوجه نحو الإبداع و....و.....، وهي كلمات رنانة وبراقة لكنها تبقى
جوفاء غير مرتبطة بخطة واقعية، وعلى حين يتم افراد مجلدات وآلاف الصفحات و
المؤتمرات وورش العمل التي تتناول تفاصيل الخطط، فإنها فعليا على الأرض لا تحدث
الأثر المطلوب، ببساطة لأنها قائمة على الإجراءات وليس الفعل، أي أنها تستبدل
مجموعة قديمة من الاجراءات وتحل محلها مجموعة من الاجراءات التي يجب على المعلم
اتباعها، لا لتعطيه المساحة والحرية الكافية "للفعل" الحقيقي الأصيل
الحر والمؤثر
ربما
عند هذه النقطة من الجيد أن أوضح أن المقصود بالانتهازية هنا ليس سبة أو انتقاص،
إنما هي حالة اجتماعية/ مهنية، ففي ضوء قناعة جماعة معينة من المعلمين بعدم كفاية الإطار
القديم لتحقيق طموحاتهم وأفكارهم، يبدو الإطار الجديد ملائما لتقدمهم والتعبير عن
أفكارهم، وبالتالي يتشجعون لأخذ المبادرة والبناء على الاجراءات الجديدة لتحقيق
طموحهم الشخصي والمهني، في هؤلاء النشطين تجد الجهات الرسمية ضالتها، فهم من جهة دليل
على صلاحية هذه المجموعة من الاجراءات، ومن جهة أخرى سلاح موجه للحشد الأكبر من
المعلمين الآخرين، ويبدو اتهامهم بعدم القدرة على المواكبة والتطور منطقيا مقارنة
بزملائهم.
وهنا
يمكن إيراد دليلين على كذب هذا الادعاء الأخير، الأول هو وعي غالبية المعلمين بأن
تلك تبقى "مجموعة اجراءات" لن تحقق الهدف المقصود، لأنهم لم يكونوا جزء
من بنائها واتخاذ القرارات المترتبة عليها، والثاني هو خبرة المعلمين بتغير
"الاجراءات" عدة مرات من قبل بدون تغيير حقيقي على أرض الواقع، لذلك
تبقى تلك الاجراءات دوما محاصرة في عدد قليل من المعلمين، ولا تحدث أثرا لدى
السواد الأعظم منهم
هنا
تبدو مقولة تأثير القرار السياسي في تطوير التعليم باطلة، لكن الأمر ليس كذلك...
(يتبع)
0 التعليقات :
إرسال تعليق