التعلم السطحي والأعمق 2

مقدمة نظرية لا غنى عنها...

حاولت في المقال السابق إلقاء بعض الضوء على مفهوم التعلم السطحي، والذي يعبر عن علاقة أحادية بين سطح صفحات المقرر  والقشرة الخارجية لعقل الطلاب، وكذلك توضيح بعض الاتجاهات السائدة عند المعلمين في تعميق خبرات التعلم، وتدرجها من محاولة تعميق المقرر إلى  تعميق المحتوى إلى تعميق طريقة التدريس (أي إعطائها العمق اللازم لأي عملية تعلم حقيقية) ، إلا أنه كما انتهيت فإنه غالبا ما تعجز هذه المحاولات عن إكساب الطلاب المهارات المطلوبة نظرا لعدم شيوعها من جهة، ولفقدانها الاطار العام المنظم لها من جهة أخرى، مما يحولها إلى جهود مبعثرة، لا تحقق الكثافة اللازمة لإحداث تحولات حقيقية في العملية التعليمية، طرائقها ومناهجها.

ويمكن تحقيق ذلك من خلال تعميق شامل للعملية التعليمية، وهو ما يطلق عليه التعلم الأعمق، ويقوم التعلم الأعمق على مبدأ أساسي، وهو ربط كل المعارف التي يكتسبها الطالب مع بعضها، بحيث تشكل شبكة من المعارف التي تعينه على التقدم في مجال تعلمه أكاديميا، كمتعلم مدى الحياة، وتوظيف تلك المعرفة في حياته المستقبلية والمهنية، ولكي يتحقق ذلك لابد من تنمية مهاراته في مجال اكتساب المعرفة وتوظيفها، وهو ما يتم من خلال منح الطالب الحرية والاستقلالية في العمل، وبالتالي تحمل المسؤولية عن تعلمه، مما يتطلب منح الطالب الصلاحية الكافية لاتخاذ قراراته الذاتية في مجال تعلمه، وهو ما يتطلب إتاحة خيارات مختلفة أمام الطالب بحيث يمارس التعلم وفقا لاهتماماته الذاتية وتعبيرا عنها، وهو ما يتطلب بذل مزيد من الجهد تجاه تفريد التعليم، ليس فقط من حيث طرائق التدريس، ولكن من حيث المخرجات المتوقعة من الطلاب كذلك.

ويتطلب تحقيق ذلك من جهة أخرى إقامة المزيد من الروابط بين ما يتم داخل الصف من عمليات التعلم، وما يحدث حقا في العالم الواقعي، من خلال بناء علاقات تواصل مع خبراء في مجالات متعددة، وتوطيد العلاقات مع المؤسسات المحلية (البلديات، الشركات، المصانع، المنظمات غير الربحية....) بما يسمح للطلاب بالاطلاع على خصائص وآليات العمل داخل تلك المؤسسات، وهو ما يعني قطعا ادوار مغايرة للمعلم، بالإضافة إلى الاطلاع العميق على محتوى التعلم وتصميم الروابط المعرفية مع العالم الخارجي، بما يوفر للطلاب بيئة تعلم آمنة وثرية، يتطلب منه تواصل مباشر وقدرة على إقناع الأشخاص والهيئات بتولي دورها في عملية تعلم حقيقي.

ووفقا لذلك ينتظم التعلم الأعمق وفقا لستة مجالات أساسية، يجب على المعلم التركيز عليها، حتى يتأكد من قيادته لعملية تعلم وثيقة وحقيقية، وهي:

·        إتقان المحتوى الأكاديمي
يكتسب الإتقان هنا معنى مغاير عن مجرد امتلاك الحقائق والمعارف الواردة في المحتوى، بل يجب على الطالب أن يمتلك المهارات اللازمة من أجل ربط تلك المعلومات مع بعضها، وتوضيح السياق العام لها، والقدرة على إدراك أهميتها في علاقاتها مع جزيئات أخرى من العلم ذاته أو مع العلوم الأخرى، وتقديم تبريراته لهذه الأهمية، بالإضافة إلى التدرب على الممارسات أو المهارات المرتبطة بها، والتعبير عن ذلك كله في سياق إبداعي من وجهة نظره الذاتية.

·        تعلم كيف تتعلم
على الرغم من أهمية المحتوى العلمي، إلا أن صلاحيته الزمنية تبقى محدودة نتيجة لسرعة التراكم المعرفي، من المهم هنا يجب أن يطور الطالب قدراته على اكتساب المعرفة وتنظيمها، من خلال تدريبه على تحديد أهداف التعلم وتزويده بالآليات التي تمكنه من مراقبة تقدمه، وتنمية قدرته على وضع تحديات شخصية له في مجال التعلم، والتأمل في ما يتم تعلمه وآلية تعلمه، والحصول على التغذية الراجعة من أجل التحسين والتطور والنمو.

·        التفكير النقدي لحل مشكلات معقدة
في حياة تزداد تعقدا باطراد، تكتسب المعلومات والمهارات أهميتها من كونها جزءا من حل مشكلات واقعية تواجه جماعة من البشر، مع زيادة مطردة وتنوع هائل في مصادر المعلومات، تتطلب من الإنسان بذل مجهود أكبر من اجل تقييم دقة وصلاحية المعلومات من جهة، والقدرة على بناء الآراء والأفكار وتقديم الحجج الصحيحة على صدقها وفاعليتها من جهة أخرى، مما يتطلب تدريب مكثف للطلاب على التعامل مع المشكلات وبناء الحلول وتجريبها، وكذلك على النقد الذاتي والغيري  وتأمل أساليب العمل الخاصة بهم وبالآخرين، بهدف الكشف عن الثغرات وتحسينها.

·        العمل التعاوني
من أهم مهارات العصر الحاضر هي القدرة على العمل بفعالية ضمن فريق العمل، ويتوقف عليها النجاح في آلاف المواقف في الحياة الأكاديمية والمهنية، وهو ما يتطلب العمل على تطوير قدرات الطلاب في العمل مع مجموعة ضمن خطة محددة، يتم تقاسم المهمات فيها بحيث يستطيع كل فرد تولي الجانب الذي يبرز أفضل صفاته، والقدرة على تبادل الأفكار مع الآخرين والبناء عليها، وتولي مسئولياته الشخصية مع الاستعداد لتقديم الدعم للآخرين في مهماتهم، وتبادل التغذية الراجعة مع أعضاء الفريق و التقييم الجماعي لمدى تحقق الخطط

·        التواصل الفعال
لكي يتمكن الطالب من الوصول لمصادر الدعم السياسي والاقتصادي والاجتماعي لمقترحاته وأفكاره الجديدة، وإقناع الآخرين بأهمية مقترحاته وقابليتها للتطبيق ، وإحداث التأثير الايجابي المطلوب على الآخرين، يحتاج لتطوير مهاراته في مجال اختيار وسائل الاتصال وبناء المزيج المكون رسالته بما يتناسب مع الموضوع وطبيعة الجمهور، وإتقان استخدام وسائل الاتصال وتعظيم أثرها، والتعامل مع النقد والتغذية الراجعة من الآخرين بفعالية

·        تطوير ذهنية النجاح الأكاديمي
تتعامل المدرسة التقليدية مع كل فشل باعتباره خطيئة وأمرا مرفوضا، إلا أن ذلك من جهة أخرى يهبط بسقف التحدي الذي يتقبله الطالب، وبالتالي فلن يسعى إلى تحديات تفوق قدراته الحالية، إلا أن التعلم يثير في الطالب الحماسة لتولي مهمات معقدة تتجاوز مستوى قدراته الحالي، ويزوده بالطرق والآليات التي تمكنه من التعامل مع فشله بطريقة مثمرة، والبناء على التقييم الذاتي والتأمل في اكتشاف وإصلاح الأخطاء، في إطار من الالتزام الأخلاقي بالقيم العامة والمهنية في مجاله.

لكن ذلك يبدو معقدا جدا....هل هناك ما يثبت إمكانية تحققه في بيئة تعليمية تعاني أصلا من النقص في الموارد والجمود في النظم والمناهج؟

هناك عدة اعتبارات تحكم الإجابة على هذا السؤال..فتلك  الخصائص والمهارات الواردة سلفا ليست من باب الرفاهية أو التحسين، بل هي لازمة لكل مجتمع يرغب أن يحيى وينافس في المستقبل، ضرورية لكل الطلاب الذين نرغب في توفير فرص عمل ونمط حياة ناجح، وأساسية في خلق مواطن فاعل قادر على تطوير مجتمعه والالتزام بالتحديات المفروضة عليه، وبالتالي فيجب أن ينصب على "تطويع" البيئة التعليمية من أجل تحقيق العمق اللازم لما يقوم به من جهد تعليمي.


ويضعنا ذلك أمام حقيقتين هامتين، الأولى هي إن الوصول التعلم الأعمق يتطلب وعيا  من جماعة المعلمين وعيا بأولوياته وإيمانا بضرورته، وهو ما يتطلب بداية جهد ريادي في تحقيق نماذجه، بعيدا عن الأشكال التقليدية المحفوظة والمكررة، والثانية هي أنه إذا كان أي عمل حقيقي يتطلب سعيا تدريجيا لتدرجه، وأن عمليات التعميق تتطلب وقتا لاستيعابها من قبل جميع الأطراف المشاركة، المعلمين والطلاب والإدارة والأهل والمجتمع المحلي، إلا أن ذلك يجب أن يتم وفق رؤية شاملة ووعي بمدى التقدم الذي يتم إحرازه، وإلا فقدت بوصلتها للوصول للمطلوب.

0 التعليقات :

إرسال تعليق