التعلم السطحي والأعمق 1

يمتلك المعلم وحده القرار بمدى العمق الذي يمكن أن يحققه من خلال تدريسه، وعلى الرغم من المعوقات المحيطة بمجال عمله، والمتمثلة في المناهج كثيفة الدروس ركيكة المحتوى، ونظام الاختبارات القائم على الحفظ، وكثرة الأعباء التدريسية والمهام الروتينية والأعمال الورقية، وساعات العمل المضغوطة، وبيئة العمل غير المشجعة، إلا أن ما أؤمن به، وما أكدته لي خبرات زملائي وطلابي، هو أن  المعلم يبقى ملكا في ساحة عمله، داخل جدران الصف وخارجها، ويمتلك دائما الفرصة، إذا ما امتلك الإرادة، لتجاوز ما يسمى بالتعلم السطحي.

يقوم التعليم السطحي على تدريس ظاهر المعرفة كما يمثلها الحبر المستخدم في طباعة الحروف والكلمات على صفحات الكتاب المدرسي، فالمعلم السطحي هو "عبد" للمنهاج، ينصاع له، غير قادر على تطويعه، يتبعه سطرا فسطر وكلمة فكلمة، غير قادر على إحداث أي خدش في طلاء عقل الطالب، وبالتالي يرى أن مهمته هي تخزين المعلومات على القشرة الخارجية من ذاكرة الطالب، ويرى في حشد المعلومات الوسيلة الأمثل للتدريس، ليس هناك مجال للمجازفات ولا خروج عن المألوف في التعليم السطحي، تعليم قائم على الحفظ، وموجه نحو الاختبار، بما لا يتجاوز مهارة ترديد المعارف الواردة في المنهاج، بعض النظر عن أهميتها أو صدقيتها.

والمتعلم في التعليم السطحي هو مجرد كائن بائس، مهمته الأساسية هي الانصياع والتنفيذ الحرفي لما يتلوه عليه المعلم، اقرأ..أعرب..احسب..سمع....اجب، لا مجال لاستخدام عقله إلا في تخزين وترديد المعلومات، لا مجال لتنمية مهاراته العقلية أو الوجدانية، وهو غالبا طالب ملول لا يستطيع التركيز لفترات طويلة، نتيجة لبقائه في ذات الوضعية الجسدية والنفسية طوال الوقت، محروم من اقتراف جريمة التفكير فيما يلقى إليه من معلومات.

وأساليب التدريس في التعليم السطحي محصورة، تقتصر على اتجاه واحد للمعلومات من المعلم للطالب، ذات مستوى معرفي وحيد، يتسيده المعلم باعتباره الأكثر معرفة ودراية، ويعد استخدام الوسائل التوضيحية أو أي أدوات أو تقنيات أخرى  روتينيا، هدفها تعزيز العرض، وتثبيت حالة السلبية المحيطة بالمتعلم،  وتسجيل استخدام وسيلة في الخانة المخصصة لذلك في دفتر التحضير، الذي يشكل بدوره علاقة معرفية-وظيفية  بالسلطة الأعلى منه.

ويثور القليل من المعلمين (أو بعض المعلمين لكن أبدا ليس الكثير منهم ولا أغلبيتهم) ضد هذه الحالة المعرفية الجامدة، والتعامل مع كتاب المنهاج باعتباره نص مقدس، ويشرعون في تعميق التعلم وفقا لعدة مستويات:

المستوى الأول: تعميق المحتوى، وهنا مازال المعلم موجه نحو المنهاج، ولكن بصورة أكثر تحررا،  حيث يستطيع من خلال خبرته الكشف عن المفاهيم المجردة  التي لا يحسن المنهاج صياغتها، أو المحاور الإشكالية أمام الطلاب، ويبحث عن الطرق والوسائل التي يمكن من خلالها سد هذه الثغرات في المنهاج، في هذه المرحلة مازال التدريس موجه نحو الاختبار النهائي، إلا أنه يقوم بذلك بكفاءة ومرونة أعلى.

المستوى الثاني: تعميق المعرفة، عند هذا المستوى يتحرر المعلم من سطوة الاختبار باعتباره الموجه الأساسي  لعمله، إلا أنه مازال يعتقد بأن المعرفة هي الأهم، وأن طلابه مازالوا غير قادرين على الوصول إلى المعرفة بأنفسهم، وغير قادرين على ترويضها وتوظيفها، وبالتالي يعمل على نقل المعرفة إلى الطلاب من خلال الربط بين الحقيقي – لا السطحي- بين المحتوى المعرفي للمنهاج وخبرات الطلاب السابقة، واهتماماتهم ورغباتهم وقدراتهم، وكذلك الربط مع الواقع المعاش والحياة اليومية، مازال الطلاب في هذا المستوى متلقون، إلا أنهم على الأقل يتلقون محتوى ذا معنى بالنسبة لهم.

المستوى الثالث: تعميق الأسلوب، بناء على الوعي باختلاف الطلاب في قدراتهم العقلية والشخصية، وكذلك الحاجة لتطوير المهارات المعرفية من خلال الممارسة، يدرك المعلمون ضرورة التنوع في أساليب التدريس، والبحث عن طرق تمكن الطلاب من أداء أدوارا أكثر فاعلية في عملية تعلمهم، ويتخذ ربط المحتوى مع العالم شكلا أكثر فردية لكل طالب، ويبدأ المعلم في مزج عناصر جديدة في العملية التعليمية مثل الدراما والموسيقى والفن عموما، وتتخذ الأنشطة التعليمية مسارا مغايرا لما يرسمه المنهاج بشكله الحرفي، ويؤمن المعلمون عند هذا المستوى بأهمية الاستقصاء والبحث عن المعرفة وتنظيمها كمهارات أساسية يجب استهدافها خلال عملية التعليم.

إلا أنه حتى عند ذلك المستوى، لا يحقق التعلم العميق الهدف المقصود منه، لأنها غالبا تبدو كجهود معزولة لمعلمين متباعدين، لا يشكلون كتلة حرجة أو تكتل واضح المعالم يعمل على تغيير جذري في طريقة التعامل مع المنهاج نفسه، بل تبقى في بعض الأحيان جهود المعلم ذاته معزولة ومبعثرة، ضربة هنا أو ضربة هناك ، بالكاد يمارس المعلم ذلك النوع من الأنشطة مرة أو مرتين على الأكثر خلال العام، مع بعض الصفوف، تحت ضغط المنهاج ذاته.


ولكي يحقق التعلم العميق أهدافه، يجب أن يكون ممارسة عامة في الصفوف والعلوم المختلفة (مع استمرار التحفظ على الفصل بين العلوم) ضمن إستراتيجية شاملة تستهدف التطوير المستمر لمهارات الطالب المعرفية والشخصية، وإعداده لمواجهة الحياة في مستقبل يختلف حتما عن الحاضر، وفقا لمجموعة من المبادئ التي تمنح الطالب استقلالية في العمل وتحمله مسئولية تعلمه، وتقدر الاختلاف بين الطلاب و التباين في مخرجات التعلم، وتساعده  على التواصل والعمل ضمن مجموعة بكفاءة، وتطوير مهاراته النقدية لحل مشكلات معقدة، وهي ما تعرف بمبادئ "التعلم الأعمق".

0 التعليقات :

إرسال تعليق