المعلم ذو البعد الواحد (2) المعرفة

المعلم ذو البعد الواحد
One-dimensional Teacher
(2)
المعرفة
إن ما يجعل للبحث في ظاهرة المعلم ذو البعد الواحد أية فائدة، ليس فقط محاولة الكشف عن أسباب انهيار القيمة التي يمثلها المعلم والتعليم في المجتمع، ولكن أيضا انقاذ الجهد الضائع لآلاف المعلمين والمعلمات، العمل اليومي المكرر بلا فائدة أو أثر حقيقي، وبصفة خاصة ما يعنيني هنا بشكل شخصي هو تمييز هؤلاء المعلمين الحقيقيين الذين يبذلون أقصى جهودهم لتحويل كل درس إلى خطوة في سبيل وعي الطلاب بوجودهم، عن كل هؤلاء الآخرين غير القادرين على تجاوز حدود وظيفتهم.

والفكرة الأساسية التي أسوقها هنا هو أن حرية المعلم وقيمته وتأثيره في المجتمع تبدأ من داخل الصف وليس من خارجه، وأي حراك للمعلمين مهما بلغ مداه، طالما لا يرتكز على إعطاء المعلم سيطرة على مجال عمله بالصورة التي تمكنه من اختيار المفردات وتفسيرها، هو حراك وقتي ومحدود التأثير، وطالما استغنى المعلم عن دوره الأساسي في إثارة وتشكيل الوعي، فهو بذلك يرتضي المكانة المتهالكة التي اصطلح المجتمع على نسبها له، فبدلا من أن يكون رائدا للتنمية في بعدها الإنساني، يصبح عبئا عليها إن لم يكن معيقا لها. 

وتلعب نظرية المعرفة دورا هاما في إدراك المعلم لوجوده وأهمية دوره، إنها التساؤل حول ما نعرف، وكيف نعرف ما نعرف، وإلى أي حد معرفتنا دقيقة، هل هي مهمة؟ هل هي واقعية؟ هل هي نهائية؟ هل تختلف المعرفة باختلاف الذات العارفة؟ وهل يختلف معناها من سياق لآخر؟ كل تلك التساؤلات وأكثر تثيرها نظرية المعرفة، ومن خلال إجابته على تلك الأسئلة يكون المعلم معتقداته المعرفية، التي تؤسس في النهاية للعلاقة الثلاثية المقدسة: الطالب، المعلم، المنهاج.

أما المعلم ذو البعد الواحد فلا يميل  إلى التساؤل عن أصل المعرفة ولا كيف تكتسب، أو التفكير النقدي في الآراء السائدة، أو الفحص النقدي للعلوم والمعارف، ولا يزيد ذلك في تفكيره عن كونه مجرد "فلسفة فارغة"، لا ترتبط بعمله وليس لها تأثير على الواقع، فهناك نسخة واحدة من الحقيقة، هي ما يقررها المنهاج، ودوره هو نقلها إلى الطلاب، من خلال الشرح المصحوب بالكتابة على اللوح، والمطلوب من الطلاب اتقان حفظ المادة العلمية، وإلا فإنهم غير قادرين على التعلم، وهذا النموذج واهي معرفيا، إلى الحد الذي يتساوى فيه مع الجهل والخرافة، ليس فقط لإنه مخالف لكل نظريات التعلم حول اكتساب المعرفة، بل لإنه بالأساس مخالف لطبيعة المعرفة البشرية.

ولعل ثقافة تقديس النص البشري المتأصلة في صلب الثقافة العربية، تتخذ أقصى تجلياتها في النظام التعليمي، فالمعلم ذو البعد الواحد لا يعترف بالعلم كعلم نافع وصالح للأغراض الدراسية، إلا حين يتم كبسلته وتعبئته بين دفتي المقرر، هو لا يؤمن فقط بالانفصال بين العلوم، بل يؤمن تماما بالانعزال بين فصول العلم نفسه، فما تم دراسته في نفس العلم في سنوات أو فصول سابقة لا يصلح أن يكون مادة للتدريس في الفصل الحالي، مهما كان درجة ارتباطه بالموضوع.

ولا يؤمن المعلم ذو البعد الواحد بحيوية المعرفة المستمدة من ارتباطها بالواقع،، وعند الإشارة إلى بعض التطبيقات (شريطة أن تكون تلك التطبيقات مذكورة نصا في الكتاب المقرر) فلا مجال هنا للطلاب للممارسة الحرة خارج الخطوات المنصوص عليها، أو لاستنتاج المعرفة بذاتهم من خلال عملية بحث وتنقيح، سواء تحت حجج الوقت أو الإمكانات أو أيا من هذه الحجج، إلا أنها بالأساس ترجع لقناعة راسخة أن الطلاب لا يستطيعون الوصول للمعرفة إلا من خلاله "إذا لم أشرحها لهم، فكيف سيستوعبونها؟"، وطبعا المعرفة المقصودة هنا ليست المعرفة بإطلاقها، ولكن المعرفة المحددة في المقرر.

المعرفة هنا كما يتناولها المعلم ذو البعد الواحد، المدرس، ليست فقط معزولة عن الواقع، بل هي منزوعة الصلة أيضا عن خبرات الطلاب وخلفياتهم بالكامل، فما يعرفه الطلاب بالضرورة من البيئة ليس مدخلا لأي شيء، إلا في حدود ما يتيحه المنهاج، وغالبا ما يتم تناولها، هذا إذا تم الإشارة إليها أصلا، بشكل عرضي وسطحي، كذلك فهي معرفة معزولة عن قناعات المعلم وممارساته، إلى الحد الذي يسمح له أخلاقيا بتدريس معلومات قد لا يؤمن بصحتها أو بحداثتها، بل إن المعرفة في المقرر وفقا لرؤية المعلم ذو البعد الواحد معزول عن التطورات الحادثة في العلم نفسه، فكل التطورات التي يشهدها العلم في فرع من الفروع مقطوعة الصلة تماما بالدروس التي يقدمها المعلم في الصف، ببساطة لإنه لم ينص عليها المنهاج.

كل ذلك ما هو إلا أعراض لتقديس النص المدرسي، انعزال النص عن أي سياق تتم فيه عملية التعلم، فهو نص مقدس بذاته ولذاته، غير خاضع للتأويلات والتفسيرات الشخصية، سواء للمعلم أو الطلاب، حالة من حالات الانسحاق المعرفي أمام المنهاج والانصياع التام له، تجسيد مطلق لما يكمن أن نسميه "إغلاق العقل الفلسطيني"، والتي ينتج عنها ظاهرة جد خطيرة، تتبدى في سلوك المعلم ذي البعد الواحد وتنعكس على طلابه، ألا وهي غياب التفكير النقدي.

ويؤدي غياب التفكير النقدي إلى التسليم بكل ما يطرح عليه كحقائق، بغض النظر عن مصدرها أو مضمونها، مما يتجلى في عدد من المظاهر، مثلا ما يمكن تسميته بالإيمان الخطابي، حيث تكتسب اللغة ذات الصياغة الخطابية مصداقية عالية، دون تمحيص محتواها وفحص صدقيتها، أو التركيز على قشور المعارف دون القدرة على النفاذ إليها، وهو ما يمكن أن يكون أحد عوامل فقدان التواصل مع التطور الحادث في مجال العلوم أو حتى في طبيعة المعرفة ذاتها،  وكذلك سهولة انتشار الإشاعات والمعارف المغلوطة والأفكار الخرافية وتصديقها، كما يتجلى في وسائل الإعلام الاجتماعي وعبر الشبكات الاجتماعية.

مما سبق يتضح لنا تفاهة المعرفة التي يمثلها المعلم ذو البعد الواحد وسطحيتها، حتى دون أن نعرضها على النظريات المعرفية الأحدث تطورا في التعلم (الترابطية على سبيل المثال، والتي ترى أن لب عملية التعلم يقع في التركيز على العلاقات بين المعارف لا في تعلم المعارف ذاتها)، أو نربط بينها وبين التطور الحادث في مجال تقنيات التواصل والمعرفة، حيث أن ذلك النموذج المعرفي المترهل أبعد ما يكون عن القدرة على التواؤم معها أو الاستفادة منها، إن الاحتكام للحس الجيد فحسب قادر على تمييز عدم فاعلية تلك المعرفة أو ما يمكن أن ينتج عنها.

ويجادل البعض بما يمكن أن يمثله بعض المتفوقين من خريجي هذا الشكل من الممارسات في العديد من المجالات، يمكن أن نقول باطمئنان أنهم قد تميزوا بالرغم من هذا المنهاج وليس بسببه، وعندما نتحدث عن التعليم العام، لا يمكن أن نجادل بحالات فردية في مقابل مئات الآلاف من خريجي هذا النظام، والذين يستسلمون تماما لتبعاته (والتي بطالة المتعلمين ليست أقلها)، بل يمكن أن نعزو هذا التميز للقلة من المعلمين الحقيقيين الذين يرصعون النظام التعليمي كالنجوم.

إن ما أؤمن به قطعيا، إن أي حركة تحرر أو تنمية لا يمكن أن تتم في ظل معلمين تلك هي ممارساتهم المعرفية، ولا يمكن للمعلم أن يسترد أيا من مكانته في المجتمع، دون استبدال هذه القناعات بمبادئ تعكس وعيا أكبر بالعالم الذي يحيى فيه.

0 التعليقات :

إرسال تعليق