المعلم ذو البعد الواحد
One-dimensional Teacher
(3)
الفن والتربية الفنية
لا
يمكن أن ننتهي من تناول النموذج المعرفي للمعلم ذو البعد الواحد، دون أن نتطرق إلى
الفن، لعدة أسباب ليس أقلها أن التقسيم السابق بين المعارف النظرية والعلمية
والفنية لم يعد معمولا به في نظريات المعرفة الأحدث من جهة، وعلى صعيد التربية
يلعب الفن دورا أساسيا في التعلم المعاصر، إلى الحد الذي يمكن القول أنه اضحى
مدخلا أساسيا لسائر موضوعات التعلم، وقبل كل شيء آخر، فإن الفن يهدف إلى تنمية
الذوق، والذي لا يزيد في أبسط تعريفاته عن القدرة الحدسية على التمييز بين الصحيح
والخاطيء، بين الحسن والقبيح...واحدة من القدرات التي يحتاج طلابنا لشحذها
والتدريب عليها بكثافة.
ولا
يستجيب المعلم ذو البعد الواحد لهذا النوع من التطورات الحادثة على صعيد المعرفة
والتعلم، ولا يهتم بتطوير ما لا يمكن قياسه من خلال اختبار ورقي كتابي، وبالتالي
ينظر بعين الريبة إلى تلك المحاولات الخجولة لإعطاء أهمية نسبية للتربية الفنية.
وتميز
المعرفة التقليدية التي يستند إليها المعلم ذو البعد الواحد بين "المواد
الدراسية" وفقا لتراتبية معرفية كلاسيكية، تتربع على عرشها الفيزياء
والرياضيات، تليها المواد العلمية واللغة الإنجليزية، ثم المواد الأدبية واللغة
العربية، بينما تقبع الفنون والدراسات المهنية في قاع الأهمية التعليمية، ويرجع
هذا التقسيم لمعايير بالية، ترتبط بتصورات النخب في مرحلة تاريخية من جهة، ووفقا
لتراتبية تفرضها النظرة الاجتماعية إلى تخصصات أكاديمية بعينها تخصها بعين الرفعة
والإجلال من جهة أخرى.
وتنعكس
تلك التراتبية أيضا على الأهمية النسبية للمعلمين والطلاب داخل المدرسة وخارجها،
فبينما نجد أن معلمين الرياضيات والفيزياء عادة ما يحوزون النصيب الأوفر من الدعم
والتقدير، ويحظى معلمو اللغة الإنجليزية بمكانة خاصة لسبب ما، فإن معلمي الفن
غالبا ما ينالون التحفيز الأقل، وتبدو مطالبهم غالبا في نظر الإدارة مستغربة أو
مبالغ فيها، ليس لانعدام الثقة أو التقدير الشخصي بل لقلة التقدير لتلك الجوانب الفنية
وتهميش دورها في عملية التعلم، والتي يتجسد في مصطلح "الاشغال" ويعني
قيام المعلمين من التخصصات الأرقى، بتعليمات من الإدارة، بالسطو على الحصص المخصصة
للتربية الفنية أو المهنية أو الرياضية، ففي نظر معظم المعلمين والإدارة لا لزوم
لها "كلام فاضي".
فالنمط
المعرفي المحافظ للمعلم ذي البعد الواحد لا يهتم بالتنوع في الاستجابة الذي يطرحه
الفن، فهو يهدف في النهاية إلى نمط إجابة واحد يصدر عن المتعلمين جميعا، وبالتالي
فهو يستثني التنوع في وجهات النظر الذي يطرحه الفن باعتباره مخالف لما يتوقعه من
الطلاب، كذلك فتطور الأهداف خلال العمل الفني مخالف لكل ما تعلمه ومارسه من ثبوت
الأهداف بشكل مطلق، وبالتالي فإن تضمين معرفة الطالب في عمل فني أمر لا يستسيغه
ولا يستوعبه، حيث تركز ممارساته بالضرورة على تسطيح المعرفة وتفريغها من أي عمق....مجموعة
من الجمل الجوفاء التي يمكن للطلاب
كتابتها على دفتر الامتحان.
إن
ممارسة الفن تنطوي دوما على معايشة تجربة تعجز اللغة العادية عن صياغتها، وفي حال
ممارسته خلال التربية الفنية أو خلال العلوم الأخرى، تعتمد الاستجابة الفنية على
تكثيف المعاني والأفكار والمشاعر في كل واحد ودقيق، تلك نتيجة لا يفهمها المعلم ذو
البعد الواحد، فالمدرسة بالنسبة له ليست المكان الأمثل لممارسة الحياة، ولا مجال
للخبرات الحية المعاشة، والمادة التعليمية بالنسبة له هي معارف جامدة لا حياة فيها
ولا مشاعر، إنها مواد محايدة لا مجال للذاتية في الفهم أو التعبير.
لذلك
اعتقد أن معلم "التربية الفنية" ذو البعد الواحد، هو أسوأ أنواع المعلمين
قاطبة، فهو مبدأيا لخاضع نفس النمط المعرفي، وقناعاته تصب في مصلحة التقسيم الاجتماعي
للعلوم المدرسية، ويرحب عادة بتمرير حصته إلى المعلمين الآخرين، فهي مجرد عبء ملقى
على عاتقه (إلا في حال أن ذلك يتضمن تكليفه بمهام أخرى غير التدريس، مثل المساعدة
في بعض الأعمال الإدارية)، فهو أيضا ينفذ المنهاج بحذافيره، ولا يرى في إثارة حماس
الطلاب أو استغراقهم في تجربة فنية، جزءا من مهامه، إلا بالقدر الوارد في المنهاج،
وهو ما يرسخ تلك القناعات في عقول الطلاب ويتدرجون في التعليم وفقا لها.
وينعكس
غياب الحفاوة بالفن، على تدني "الذوق الفني" في جميع عناصر الحياة
المدرسية، فالكتب الدراسية سيئة التصميم والإخراج، والصور والرسومات الموجودة فيه
رديئة غالبا "خصوصا النسخ المحلية منها"، والرسومات على جدران المدارس
سطحية ومتكلفة، وتعكس مفاهيم وأساليب فنية تافهة في معظم الأحيان، هذا في حال
تواجدها أصلا، ويخلو تصميم الصفوف وغرف التدريس غالبا من أي لمسة فنية، أما الموسيقى
والتمثيل وأشكال الفنون الأخرى، ناهيك عن ندرتها، فهي وإن وجدت فهي غالبا لا تخلو من
فجاجة وسطحية.
ولا
يدل على هذا التدني في الذوق، من العروض التقديمية (أو أي شكل من أشكال
الملتيميديا التعليمية) التي يستخدمها أو يقدمها معظم المعلمين، حيث تخلو غالبا من
أي لمسة فنية، ويتم استخدام الألوان والأشكال والصور فيها بشكل فج، والحركات
المصاحبة والمؤثرات مفتعلة ومزعجة، وكأن أحدا لن ينظر إليها أو بمعنى آخر، تعتمد
مبدأ أن الطلاب مجبرين على النظر إليها، وأن المعلم قد قام بأكثر من واجبه لمجرد
تعطفه وقيامه بعمل عرض تقديمي.
اعتقد
أن تدني الحاسة الفنية أو الذوق الفني يرتبط دائما بحالة من الانحدار الثقافي بشكل
عام، يمهد لها ويشجعها ويمدها بأسباب وجودها وتوغلها، وفي المقابل فإن الفعل الفني
الحقيقي يتضمن في جوهره تأصيل حضاري، ويمكن تشخيص غياب التربية الفنية كعرض من
أعراض تدني الثقافة المدرسية بشكل عام، وغيابها عن تقديم خبرات حقيقية ومعاشة
للطلاب، ومن الناحية العلمية المجردة، فغياب التربية الفنية عن التأثر على التكوين
العلمي للطلاب، وانفصالها عن العلوم الأخرى، ما هو إلا تكريس لحالة مقيمة من
"الرجعية التربوية".
للمزيد
عن أهمية التربية الفنية في التعليم المعاصر:
إلهام
الكتابة الإبداعية العميقة من خلال الفن: http://goo.gl/s0PzrN
سبع
مهارات قيادية تدعمها التربية الفنية: http://goo.gl/wsuoUh
كلنا
فنانون: http://goo.gl/4jx76P
التابلوهات
"اللوحات الفنية" الحية: التاريخ والممارسة: http://goo.gl/kGyil4
0 التعليقات :
إرسال تعليق