الوقت الضائع في تدريس..الوقت

يبدو درسا بسيطا، لكنه في الحقيقة يمثل الكثير من التشابكات حول توجهات التعليم، عند تلك النقطة البسيطة يبدأ كل شئ، أو ينتهي، عندما تجد السبيل في البداية محطما لا تتوقع أن يكون باقي الطريق معبد، تلك اللبنات الصغيرة المفقودة لا تجعل البناء ناقصا فحسب، بل تزعزع أساسات البناء كله.


الكلام عن درس الساعة في الصف الثاني، حيث يدرس الطلاب للمرة الأولى عن الوقت وتقسيماته، الدرس صفحات محدودة ضمن وحدة تتحدث عن "القياس"، هي استكمالا لوحدة سابقة في الصف الأول تتحدث عن مبادئ القياس كذلك، إلا أنها في كلا الصفين لا تؤسس لمفهوم القياس حقيقة، إلا في موضوع المقارنة بين الأطوال، أما الحديث عن وحدات القياس، فهو جامد ملتزم بالوحدات المترية وقياساتها ومسائل عليها، الجدير بالذكر أن الحديث عن الاتجاهات الأربع في وحدة الصف الأول يتوافق مع نفس الموضوع في التربية المدنية في الصف الثاني، بدلا من أن يكون موضوع متكامل في كلا المنهجين، لكن لنختصر حديثنا هنا عن موضوع الوقت لا أكثر.


يقدم الدرس للطلاب في هذا الفصل بشكل سطحي، مقتصرا على قراءة الساعة العادية والتقليدية ورسم العقارب وما إلى ذلك، المعلمون/ المعلمات الأكثر إخلاصا سينفذون نشاط صنع الساعة، ورغم أن الوحدة عن "القياس" إلا أن الطلاب لا يتعلمون شيئا عن "قياس" الوقت بشكل حقيقي، فلا هم يقدرون الوقت اللازم لانجاز أنشطة معينة، ولا هم يقيسون الوقت الذي قد تستغرقه أنشطة أخرى، إنما مجرد قراءة مجردة لعقارب أو أرقام الساعة بدون ممارسة أو تنمية أية مهارات حقيقية.



أحد الموضوعات المرتبطة بذلك وهو الزمن، يبدو مفهوما مجردا من العسير على المتعلمين في ذلك العمر إدراكه، إلا أن الحقيقة خلاف ذلك، فمناقشة تصوراتهم عن الزمن في براءتها وبساطتها هي أولية لبناء مفاهيمهم عن الوقت، هل يمضي الوقت سريعا أم بطيئا؟ هل نحن في حاجة لقياس الوقت؟ تلك استفسارات خارجة تماما عن بؤرة الدراسة.
يتعلق ذلك بتوجهين أساسيين هما "التعلم الأعمق" و"مهارات القرن الحادي والعشرين"، وفقا للطريقة السطحية التي يدرس بها الموضوع يفقد الطلاب اللحاق بكليهما، الربط بين التعلم والحياة (ناهيك عن التعلم من خلال الحياة) غير متحقق نهائيا، لا يقوم الطلاب بأنشطة تساعدهم على ترسيخ مفاهيم تسمح لبناء مهارات ومفاهيم القياس عليها، وبالتالي في سنوات لاحقة حينما يقدم للطالب قوانين تتعلق بالسرعة والفعل، سيكون بحاجة لبناء مفاهيمه من جديد.

أما عند التحدث عن مهارات مثل "تقدير الوقت" و"إدارة الوقت"، وهي مهارات نكاد نفتقدها جميعا في المجتمع العربي، حيث يمضي الوقت بلا قيمة تقريبا، نفقد هنا فرصة عظيمة لغرسها وتوطيدها من خلال أنشطة تسمح للطلاب بقياس "الوقت المستغرق لكذا" والوقت الضائع بسبب كذا، وكذلك بناء الجداول وترتيب الأولويات والمواعيد النهائية، لا يمارس الطلاب غالبا أنشطة تتعلق بذلك، فإن لم يكن هذا الدرس هو الوقت الملائم لذلك، إذا فمتى!

لاحظ أننا حتى لم نتطرق حتى إلى التفكير النقدي والتفكير الإبداعي، مطلقين عنان أفكار الأطفال لتخيل أشكال جديدة للساعات ووحدات لقياس الوقت، جرب ذلك وستدهشك قوة الخيال لدى هؤلاء الكائنات الصغيرة، وقدرتها على كسر القيود التي نعتقد أنها قوالب لا تتقبل بدائل، كما أنها فرصة عظيمة لتحقيق التباين في المخرجات بدلا من تكرار النسخ.



أثناء نقاشي مع ابنتي حول هذا الدرس، استغرق منها عدة دقائق وهي تشرح لي كم يستغرق هذا الدرس من "صفحات"، وكم "صفحة" تبقى لإنهاء الوحدة أو المقرر، وبالتالي كم تبقى في الفصل الدراسي من "صفحات"، هذا قياس مختلف للوقت أيضا، وأظن أن معظم المعلمين والمعلمات يلتزمون به، ما أشير إليه هنا أن المنهاج بطريقة تنظيمه وتنفيذه الحالية، وتوزيعه "زمنيا" على الفصل الدراسي، يكشف عن خلل واضح لا يفسح الكثير من "الوقت" لتنفيذ أية أنشطة عميقة تساعد على استيعاب الطلاب لقيمة الوقت وتمثلها في أنشطتهم الحياتية، بل إن ذلك يكاد يكون خارج دائرة اهتمام واضعي المنهاج أصلا، كما يتضح من الأهداف.

0 التعليقات :

إرسال تعليق