لا يوجد زهور في هذا الحائط

ضمن مشروعي مع الطلاب لتعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين من خلال التعليم، كنت أشرف على شعبة دراسية في مقرري "مشروع التخرج" و"التربية العملية"، حيث يقوم الطلاب من خلالها بتأسيس ممارسته بناء على البحث الإجرائي، شكلت "زهرة" واحدة من أهم التجارب التي مررت بها في مجالي المهني، لم يكن ذلك أسمها لكني كنت أدعوها سرا "زهرة الحائط"، تيمنا بذلك الفيلم الكلاسيكي القديم، ويستخدم المصطلح لوصف الإنسان الخجول أو العازف عن المشاركة في الحياة، إنما يكتفي بمشاهدتها عن بعد، بغض النظر عن الأسباب الاجتماعية أو الشخصية التي تدعو الشخص لعدم الاكتراث بالبحث عن دور في الحياة، والاختفاء وراء ستار من اللامبالاة أو عدم الكفاءة.

بعد أسبوع واحد من العمل طلبت "زهرة" أن تستنكف عن استكمال البحث الإجرائي، والبدء في بحث نظري يعتمد على المطالعة وجمع المعلومات أكثر من خوض تجربة حقيقية، عمل استبانه لقياس مفهوم أو اتجاه ما لدى المعلمين، كان رفضي نابعا من شكي في قدرة تلك النوعية من الأبحاث على التأثير في شخصية الطالب العلمية، أو وعيه بمهنة التعليم وتطوير ممارساته، وفي أحسن الحالات لا تعطيه سوى معلومات حول "ماذا" بدون أي معرفة حقيقية ب"كيف" و"لماذا".

كان رهاني هو أن الانخراط في بحث إجرائي حقيقي قادر على تغيير تلك النظرة، قادر على تشجيعها على التخلي عن هوايتها في التواري، والانخراط في عمل حقيقي يعبر عن ذاتها ويثبت لها قدرتها على المشاركة في صناعة التغيير، لذلك كان علي أن أمضي معها الطريق الصعب خطوة بخطوة، لكن بشرط أن أجعلها تواجه مسؤولياتها بنفسها، دون أن أحمل عنها عبئها الخاص، فقط أساعدها على أن تحمله بطريقة تناسبها.

لاحظت أنها تعاني ليس فقط من قدرتها على صياغة أرائها بطريقة واضحة، بل حتى كانت غير قادرة على تكوين سؤال يعبر عما تهتم به، لذلك كانت المهمة الأولى أن تقوم بعمل قائمة رصد أو صحيفة ملاحظة تستطيع من خلالها أن تبني صورة صحيحة عن بيئة الصف قبل أن تبني مداخلتها، كان يجب عليها أن تحدد الأسئلة الأكثر جوهرية، وتحدد طريقة الإجابة عليها، كانت تلك مهمة شاقة واستغرقت أسابيع من البناء والهدم والتعديل، قامت ببناء أكثر من نموذج وتجربته والتعديل عليه بناء على صلاحيته، إلا أنها في النهاية تمكنت من الوصول إلى بناء صحيفة ملاحظة محكمة يمكن من خلالها النفاذ إلى ما يحدث حقا في الصف.

استطاعت "زهرة" أن تحدد مشكلتها التي ترغب في حلها، ويمكن القول أنها مشكلة مزدوجة، الوجه الأول لها ملاحظتها أن مهارات التعلم عند الطلاب متدنية، فهم غير معتادين على العمل الجماعي من جهة، كما أنهم غير قادرين عن العمل المستقل خارج إطار التلقين، لا يمارسون مهارات التفكير النقدي أو الاستنتاج واستخلاص المعلومات وبناء الرأي، كل ما تم تدريبهم عليه هو حفظ ما يلقنهم أياه المعلم.

أما الجانب الآخر من المشكلة، فيرجع لاهتمامها كمعلمة تربية إسلامية، فحسب ملاحظاتها فإن التركيز على مهارات الحفظ دون القدرة على التفسير والفهم المستقل والتفكير النقدي يلقي بعقول الطلاب في مهب تصديق كل ما يطرح عليهم باسم الدين، وهو ما يؤدي إلى التشدد لاحقا لدى البعض أو حتى إلى النفور من الدين لدى البعض الآخر.

بناء على ذلك، وبعد عدة جلسات من المشاورات، قامت زهرة ببناء تدخلها، وهو تحويل وحدة من كتاب التربية الإسلامية إلى أنشطة تنمي لدى الطلاب مهارات التفكير المستقل والعمل الجماعي، كانت فكرتها باختصار هو أن تقسم الطلاب إلى مجموعات، وتقوم كل مجموعة بتقديم تفسير لسورة الطارق، وتقوم كل مجموعة بالعرض لأفكارها وتقوم المجموعات الأخرى بالتعليق عليها، وتطلب منها ذلك الكثير من العمل الشاق لكي يتمكن الطلاب من العمل ضمن مجموعات، من خلال تحديد دور كل طالب في المجموعة، وتدريب الطلاب على أدوارهم، وكيفية تحقيق الانسجام بينها، وكيفية تبادل الأدوار أو دعم كل فرد للآخرين في المجموعة بسلاسة.

ونظرا لعدم توافر انترنت في المدرسة، وفقر مكتبة المدرسة بالمراجع، قامت بتجهيز مجموعة من التفاسير الخاصة بسورة الطارق، والتي تتناسب مع أعمارهم (الصف الرابع)، وبحيث تخصص لكل مجموعة تفسير من مرجعين مختلفين على الأقل، ومن خلال النقاش بينهم يقوموا ببناء التصور الخاص بهم، كان ذلك مشروع طموح جدا، وخصوصا قصر الفترة المخصصة للتدريب.

ربما كان ذلك من المرات القليلة التي أشعر فيها بالتوتر عند الزيارة العملية، أعرف أن الطلاب عموما يصابون بالتوتر خلال الزيارة، لذلك يبدو ادائهم في الزيارة التقويمية أكثر توترا وأقل كفاءة مما هم بالفعل، البعض منهم يصاب بالاحباط نتيجة لذلك، وهو ما لم أكن أرجوه لها، إلا أن الواقع كان عكس ذلك تماما، كانت تقف على رأس الصف بهدوء وثقة، تخفي توترها خلف ابتسامة رائعة، الطلاب جالسون حول طاولاتهم بهدوء وأدب، عكس تلك الصورة الفوضوية التي كانت تبدو في الفيديوهات والصور في بداية التجربة، كل منهم يرتدي تاجا، وعلى التاج دوره في الفريق، شاغلت المعلم المسؤول عن الصف حتى لا يتدخل في عملها، ومن نهاية الصف كان قلبي يرقص فرحا وأن أرقب كيف تدير العمل بسلاسة، تسمح للطلاب بالحركة بدون أن تتوتر، تنقل الدور بين الطلاب والمجموعات بفعالية، سحرني جو الشغف والحماس المسيطر على الصف.

المعلم الحقيقي هو من يجعل من كل طلابه ملوكا

لم تعد مجرد زهرة على الحائط، ولم تسمح لطلابها كذلك أن يكونوا زهور على الحائط لكل منهم دوره ورأيه المستقل، والقادر على التعبير عنه بطريقة رائعة، أتذكر في فترة الكتابة النهائية للبحث، كيف عارضت رأيي بهدوء وثقة، قالت لكن ما انتهيت إليه من تجربتي كذا وكذا، اتسعت عيناي انبهارا وإعجابا، إذا فقد أصبح لك رأيا تعارضيني فيه، قلت لها ممازحا، ابتسمت بخجل وأجابت، لكن هذا ما علمتنا أنت أن نفعله، لم أكن ناجحا يوما في حياتي مثلما كنت في هذه اللحظات.

يمكنني القول أنها قد تمكنت من تأسيس طريقة تدريس لنصوص القرآن يتلاءم مع مهارات القرن الحادي والعشرين، مؤسس على الفهم والتفكير المستقل، من خلال الرجوع إلى مصادر مختلفة للمعلومات وتحليلها والبناء عليها، والتعبير عنها بما يناسبه من أدوات التعبير، وتقبل الآراء المختلفة ومناقشتها، ربما أيضا زرعت بذرة في عقل كل من هؤلاء الطلاب أن الاختلاف لا يعني الخطأ، يمكن لكل منا أن يكون صحيح على طريقته، وفق ما توافر لديه من بيانات ومعلومات، وفي النهاية، فإن الحقيقة هي مجموع كل هذه الآراء ووجهات النظر المتباينة.



قناعتي الشخصية أن تعليمنا بقوانينه ومناهجه وطرقه وأنظمته هو حائط أسمنتي لا تنمو فيه الزهور، ولكي يستطيع المعلم أن يساعد تلك العقول على أن تينع فعليه أن يحدث شقا في هذا الجدار المجدب، ويؤسس لممارسة مختلفة، أصيلة وحقيقية.

0 التعليقات :

إرسال تعليق