في حضرة منير فاشه

أصابني اللقاء الأول مع منير فاشه بالحيرة (عايرني أحد أساتذتي في جامعة عين شمس 2003 أني لم أكن أعرف منير فاشه، ولم أكن أعرف هشام شرابي أيضا)، لم أعرف أيهما أكثر متعة أن أقرأ له أم استمع إليه، فعلى الرغم أن كتاباته أكثر تماسكا إلا أن حضوره الشخصي أكسب كلماته معنى إنساني مختلف، لم أعرف أيهما أكثر إغواء عباراته المكثفة حد الغموض أم استطراداته حد الشرود، فعلى حين تجبرك عباراته المركزة على التأمل، فإن استدعائه لمشاهد من التاريخ ومفاصل من الحكمة تجلي الفكرة وتكسبها شكلا، لم أعرف هل هل مفكر حالم حد اللامعقول أم واقعي حد الثورة، وهل أفكاره مغرقة في المحلية أم منفتحة حد الكوكبية، في جميع الأحوال ما أدركته تماما أنني أمام مفكر رؤيوي وجد ليلهم لا ليُصنًف، أما هذا التنوع الثقافي والعمري والاجتماعي الحاضر في الندوة لم أعرف هل يمثل فلسطين حقا أم فلسطين كما أتمناها.

يستلهم منير فاشه في النموذج (أو اللا نموذج إذا صح التعبير) الذي يتبناه جوهر الحضارة العربية الإسلامية كما يتمثلها بيت (أو بيوت) الحكمة وابن عربي وطليطلة، في مقابل نموذج نيوتن وفرانسيس بيكون وبرتراند رسل، القائم على "إخضاع الطبيعة" وهو ما تطور إلى إفساد سماء الكوكب وتربته، وتحتل التربة مفهوما مركزيا في فكر فاشه التربوي، إلى الدرجة التي يرى فيها أن المرحلة الأساسية من التعليم يجب أن تخصص ليتعلم فيها الطفل كيف يتعامل مع مفردات تربته، بالمعنى الطبيعي والمعنى الاجتماعي.

ويرفض فاشه أسس نظام التعليم الرسمي الكولونيالي، والتي أدخلها الاحتلال البريطاني، إلى المجتمع الفلسطيني، ويستحضر رفض السكاكيني لنظام المدارس الإنجليزية، لما فيه من احتذاء يتضمن تخلي الشعب عن مفاهيمه التعليمية الأساسية من جهة، وما فيه من "إذلال" لذاتية المتعلم وإخضاعه لنظام غريب عنه لا يتماشى مع طبيعته الحقة القائمة على الانطلاق والاكتشاف، والذي في مقابل منحه شهادة تؤهله للالتحاق بسوق العمل، يعمل على قولبته، يقدم فاشه مصطلح "الإذلال" باعتباره المكافيء الأكثر دقة لما نسميه "التلقين".

ويقدم فاشه من وجهة نظره أساسين لأي تعلم حقيقي، تنبني كل منهما على الأخرى:
الأولى: هي التبيين، أي أن يكتسب الإنسان من خلال التعلم القدرة على البيان، أو القدرة على بناء المعاني ذاتيا، لا أن تفرض عليه خارجيا، من خلال خبرات حقيقية وليس "مقررة" بمعنى معلبة وسابقة التجهيز كما تفترض كتب المدرسة.
الثاني: هو المجاورة، استلهاما لمبدأ لجان الأحياء خلال الانتفاضة الأولى التي لم تكن تخضع لسلطة عليها، والتي يشكل فيها المثقفون من خلال العمل معا على بناء سياقات حقيقية للتعلم، والمثقف هنا بحسب تعريفه هو "من يرفض أن يكون ببغاء".

الجزء الأكثر متعة في الندوة، هي تلك الحيرة التي وقع فيها جزء كبير من الحضور، حينما رأوا أن تلك الأفكار مغرقة في الطوباوية والابتعاد عن الواقع، قدمت إحدى الحاضرات في عجالة أحد النماذج الواقعية في "مدرسة شعفاط الثانوية للبنات" والتي ترتكز على مقولات منير فاشه، وهي ما أحتاج للتعرف عليه أكثر في الفترة المقبلة، فقد أمكنني أن أرى الحلم الذي أورثته عباراتها المقتضبة في الكثير من العيون.

0 التعليقات :

إرسال تعليق