توظيف السرد القصصي لتطوير التعبير الشفوي عند الأطفال


مادلين سمير عراق



عشرات الدراسات عن السرد القصصي وربما مئات، كلها تؤكد على أهميته أو العديد من المزايا التي يتمتع بها، أما من وجهة نظري فقد كان همي الأول من توظيف السرد القصصي هو أن امنح تلك الفتيات الصغيرات صوتا يستطعن التعبير به عن مشاعرهن وأفكارهن.


منذ اليوم الأول لي كمتدربة  فاجأتني حقيقة أن الطالبات لا يستطعن التعبير عم يجول برؤوسهن، غير قادرات على تعريف الأشياء التي يحببنها، آمالهم وطموحاتهم غير وارد أصلا الحديث عنها، من الواضح أنهم يعانون من أزمة قوية في قدرتهن على التعبير، أثار ذلك في عقلي العديد من التساؤلات، ترى ما هي أسباب ضعف التعبير عند أطفالنا، هل هو قلة حوارنا مع أولادنا مع طلابنا !،طبيعة العنف اللفظي في مجتمعاتنا بشكل عام ،أم اعتقادنا أن الطفل ليس له رأي أصلا ، هل نحن كآباء أو كمعلمين نسمح للطالب بالتعبير بحرية ! هل نستمع لهم! لكن ما أثار اهتمامي بشكل أكبر هو كيف يمكن أن أساعدهن على تجاوز تلك الأزمة، ألا يكبرن وقد أضناهن عدم القدرة على التعبير، لذلك كان الحل من وجهة نظري هو استخدام السرد القصصي بطريقة جديدة لا تتوقف عند حدود "تحويل دروس المنهاج إلى حكايات"، وإنما توظيفه من قبل الطالبات ليعبرن عن المعرفة كما تتبدى لهن، من منظورهن الخاص وبكلماتهن الخاصة.

كانت مدة بحثي 60 يوما من الملاحظات والتأملات ،والمقابلات ،تحليل الصور والفيديوهات والمواقف ، والبحث في الكتب ،وعدا ذلك كله دوري كمعلمة متدربة تقوم بكامل دورها في الفصل، تم تصميم إستراتيجية التدخل والتي ترتكز على السرد القصصي حيث تتكون من أربع مراحل:

المرحلة الأولى: التهيئة
تركزت جهودي في تلك الفترة على تدريب الطالبات على بعض التكنيكات التي تساعد على تحسين قدرتهن على التعبير، وتدفع بقدرتهن على السرد عدة خطوات إلى الأمام، مثل سرد النكات والتعليقات الفكاهية، فكنت أشجعهن على التعليق على بعض الموضوعات باستخدام نكتة، "من تملك نكتة أو تعرف موقفا مضحكا بخصوص هذا الموضوع؟" ساعد ذلك على تمرين حناجرهم على التعبير، وفي النهاية لا شيء يستدعي التفكير النقدي والقدرة على التعبير بوضوح مثل الفكاهة.
أيضا تحويل العبرة إلى ممارسة، كان ذلك يسمح لهن بالتعمق أكثر في القصة لاستخلاص العبرة منها وتذويتها من خلال تحويلها لسلوك عملي، مثلا في قصة عن طائر ساعده أصدقائه على الطيران، ومع قليل من التعزيز، حصلت الطالبات الأقل حظا على مساعدة من زميلاتهن في الصف، كانت تلك نقلة نوعية في سبيل خلق بيئة آمنة تشجع كل طالبة على التعبير عن أفكارها دون خجل أو خوف من الخطأ، حين تخطئ هناك من سيساعدك.
المرحلة الثانية: النمذجة

من خلال طرح القصص التعليمية من خلال المنهاج، حيث عملت على تحويل معظم الخبرات الواردة في المنهاج إلى شكل قصصي، وهو عمل مضنٍ لكنه ممتع، دروس الجمع والأكبر والأصغر والأعداد الزوجية والفردية والمحاصيل الزراعية والفواكه والخضروات والكثير من الدروس الأخرى حولتها إلى قصص كنت أسردها على مسامع الطالبات وأشجعهن على مناقشتها وطرح الأسئلة حولها واستخلاص الدروس ومساعدة بعضهن بعضا، قدمت لهن نماذج تطبيقية حول السرد القصصي.

المرحلة الثالثة: التدريب
وفي هذه المرحلة وضحت لهن مفهوم السرد القصصي وكيف يمكن أن تحكي حكاية، وبدأت في تدريبهن على استخدام القصة في مواقف مختلفة، مثلا " ماذا لو اقتربت أختك الأصغر من الغاز ،كيف ستقنعينها بأن لا تقترب مرة أخرى ؟" كانت الطالبات في غاية الذكاء واستطعن فورا تحويل المواقف إلى قصص تطرح كل منها عبرة أو موضوع حول القضايا التي كنت أعرضها عليهن، طلبت منهن أن تستدعي كل منهن من خبرتها قصة قد روتها أمها أو جدتها لعبرة أثرت فيها، أسعدني أنهن تشربن بسهولة ماهية السرد القصصي وكيف يمكن أن نوظفه.

المرحلة الرابعة: التطبيق
وفي تلك المرحلة بدأت في عرض قصص عليهن والطلب منهن إعادة سردها وفقا لرؤيتها وكلماتها الخاصة، يمكن لهن أن يغيرن في الأحداث أو النهاية بحسب ما ترى كل منهن، استمعن إلى قصص بعضهن البعض وناقشوها، كذلك في هذه المرحلة تم توظيف الرسم للتعبير عن القصص، اختارت كل منهن مشهد يعبر عن فصل الشتاء وقامت بعرضه وتم تحليله بشكل جماعي، بناء عليه تم الطلب من كل منهن أن تروي قصة عن الشتاء على أن تتضمن هذه القصة عبرة أو معلومات تفيد الأخريات، على الرغم من التفاوت في القدرات، فمنهن من عرضت قصة متكاملة عن الشتاء في حين عبرت بعضهن بعبارات صحيحة أو حتى أقرب إلى الصحة في بعض الأحيان، إلا أن تحولا حاسما قد حدث في المجموع، كان من الواضح أن كل منهن قد انخرطت في بناء قصتها، البنات يقفن ويعرضن عباراتهن بجرأة ودون تلعثم تقريبا، اللغة فصيحة أو أقرب إلى الفصحى، والمعلومات والعبارات متكاملة وجميلة.
قررت أن أدفع الأمور قليلا إلى الأمام، طلبت أن تعيد كل منهن قصتها بشكل كتابي، كانت مفاجأة سارة، أغلبهن استطعن التعبير كتابة عن أفكارهن، طبعا كان هناك تفاوت في المستوى، إلا أن تستطيع طفلة في الصف الثاني من التعبير عن أفكارها حتى لو بعبارات قصيرة، كان ذلك إنجازا حقا مقارنة بمستواهن قبل بداية القصة.


ما تعلمته شخصيا أننا كمعلمين لسنا مسؤولين فقط عن تلقين الطلاب المعلومات الواردة في المنهاج، المهمة أعقد بكثير، إن من واجبنا الاعتناء بكل طفل أمامنا ليس فقط كطالب ولكن أيضا كفرد وإنسان مهما كان مستواه الدراسي، نجاحك كمعلم لا يتحدد بنسبة الطلاب المتفوقين في صفك، بل بقدر ما توجهه من اهتمام ورعاية للطلاب الأضعف.

0 التعليقات :

إرسال تعليق