اتذكر أثناء دراستي الجامعية، المحاضرة التي خصصها الأستاذ للهجوم على أفكار ايفان إيليتش التربوية في كتابه "مجتمع بلا مدارس" والذي نادى فيه بأن المجتمع لن يتقدم إلا إذا تخلص من المؤسسات التي تعيق التقدم، وعلى رأسها المدرسة، وعلى الرغم مما بذل الاستاذ في حينها من جهد لتفنيد "وتسخيف" أفكار اليتش، إلا أنه استقر في وجداني أن الكثير من اطروحاته على قدر من المعقولية، وهو ما دفعني للمزيد من القراءة حول أفكار اليتش، وهو ما وجدت فيه الكثير مما يتطابق مع واقعنا التعليمي، والقاضية بضرورة التخلص من "التعليم المدرسي" بشكله الحالي
ولأفكار اللا مدرسية جانبين مهمين:
- الجانب النقدي: ففكرة هدم المدرسة ليست فكرة مطلقة بقدر ما هي نظرة نقدية إلى الجوانب السلبية من التعليم المدرسي، وبدون التخلص من تلك السلبيات، لن يستطيع اللتعليم القيام بالدور المنوط بها، وهو توفير البيئة الصالحة ليطور من خلالها المتعلمون شخصياتهم وأفكارهم ومهاراتهم.
- الجانب الرؤيوي: فالمجتمع (الآن) قد تجاوز المفهوم التقليدي للمؤسسة التعليمية باعتبارها المصدر الوحيد لبناء المعرفة، فالخبرات التعليمية متعددة المصادر والأشكال لدرجة لا تستطيع معها ملاحقتها، وبالتالي فإن سعي المدرسة اللاهث خلف توظيف التقنيات الحديثة في التعليم يبقى متأخرا عن المجالات الأخرى.
تعليم بلا أسوار
هل تحتجز أسوار المعرفة داخل المدرسة أم خارجها؟ إذا كانت تحتجز المعرفة داخلها، فلابد من هدم هذه الأسوار لكي تنتشر المعرفة، أما إذا كانت تحتجزها خارجها، فيجب تحرير الأطفال المحتجزين داخلها لتمهيد سبيلهم في البحث عنها، وبعبارة أخرى، نحن نتعلم الكثير داخل المدرسة لكننا لا نستفيد منه إلا القليل جدا في حياتنا العملية (يقول آينشتاين: إن العلم هو ما يبقى بعدما ينسى المرء كل ما تعلمه في المدرسة)، نحن لا نذهب إلى المدرسة (ومن ثم الجامعة) من أجل التعليم والمعرفة إنما من أجل الشهادة، التي يعترف بها المجتمع وترتبط بالمكانة الاجتماعية، ودور المدرسة هنا هي قولبة مجموعة من المعارف وتصنيفها وترتيبها على شكل مراحل دراسية من الأدنى للأعلى، ويتم تقديرها وفقا لمدة البقاء في المدرسة.
من جهة أخرى فإن التعليم باعتباره مؤسسة مستقلة، يكاد يكون منعزلا عما حوله، ويتضاءل دور البيئة المحيطة (الخبراء والمؤسسات في شتى المجالات) بشكل كبير داخل النظام التعليمي، والخبرات التعليمية الوحيدة المعتمدة هي الخبرات التي تتضمنها خبرات المناهج، وبالتالي فحتى المهارات التي تقدمها المدرسة هي مجزوءة ومستقلة عن سياقها، غير عملية أو وظيفية للمتعلم، وتبقى فكرة المناهج المستقلة أو تقسيم المعرفة إلى مجالات فكرة غير واقعية، فالعلوم البينية والعلوم ما بين البينية تقضي بسخافة فكرة المجالات المعرفية المنفصلة، كما أن خبرات الحياة ذاتها تأتي معتمدة على العديد من العلوم، وهو ما لم يتم تدريب الطالب عليه في المدرسة، أو تم التدريب عليه بشكل سطحي.
إن أسوار المدرسة هي عائق أمام تحقيق الأطفال لمكنوناتهم وما مقدر لهم من قدرات ومهارات
موت المعلم
المقصود هنا ليس التخلص من المعلم كمهنة أو أشخاص، إنما له نفس المغزى المقصود ب"موت المؤلف" في الفنون المسرحية والروائية، ويستمد هذا التعبير أصله من نتائج العلوم اللغوية، وهي أن الكلمة الواحدة لا تعني نفس المعنى لشخصين مختلفين، أو لنفس الشخص في موقفين مختلفين، بل تكتسب معناها من سياق الحدث ومن الخلفية المعرفية وخبرات السامع أو القاريء، وتستند تلك الرؤية إلى الوقائع والشواهد المعرفية المعاصرة، من أن تفسير المعلومات يستند إلى البنية المعرفية للذات العارفة (المتعلم في هذه الحالة)، فمثلا المعلومة ذاتها لا تعني نفس الشيء لعالمين من مجالين مختلفين، فالمقصود "بموت المعلم" هو ذلك الشخص الذي يمتلك المعرفة والقادر على نقلها للمتعلمين، وبالتالي يستمد سطوته من مكانته المعرفية الأرقى
تلك الشخصية الكلاسيكية لم تعد صالحة للبقاء، إنما هي عائق في سبيل تطوير المتعلم لمعارفه وأفكاره، صورة المعلم المحتكر للمعرفة والموكل بتفسيرها لم تعد موجودة إلا بالأنظمة البالية، ويستمد المعلم أدواره الحديثة من مبدأ "تمهين المعرفة"، فدوره لا يقتصر على تقديم المعرفة، ولا يشتمل بالقطع تفسيرها، بل جل عمله ينصب على تطوير مهارات الطلاب في الوصول إلى المعرفة، وشحذ قدراتهم على المشاركة في صناعة المعرفة، باعتبارها مكون أساس من مهن المستقبل.
تأخر الزمن التعليمي
الفعل التعليمي بطبيعته ماضوي (ينزع للماضي)، حيث يقوم المعلم بتعليم الطلاب (اللحظة الحالية) ما تعلمه خلال تعليمه الجامعي (لحظة ماضية) ليستفيد به في حياته العملية (لحظة مستقبلية)، وفقا لهذه المعادلة الزمنية، فإن قدرة استفادة المتعلم مما يتعلمه في المدرسة تتضاءل، وكنتيجة يركز التعليم على تاريخ المعرفة أكثر منه تعليم للمعرفة ذاتها، والمعلم غير مطالب بتجديد معرفته، لأنه حتى مع اطلاع المعلم على أحدث نتائج المعرفة في تخصصه، فإن هذه المعرفة تبقى غير وظيفية، لأنها غير مشمولة في المنهاج.
ويعمل المنهاج بطبيعته(ضمن عدة أوجه قصور أخرى) على تثبيت النزعة الماضوية، فعمليات الانتقاء والترتيب والتجهيز تستغرق فترة زمنية طويلة، وبحسب تسارع المعرفة الحالي، فإن المعرفة في المناهج الدراسية تصبح قديمة قبل أن يجف الحبر عليها، ومع تعزيز ثقافة تعليمية بائدة نصها أن المتعلم فقط فيما هو وارد بالمنهاج، يبقى اتصال الطالب مع المعرفة المعاصرة خلال النظام التعليمي ضعيفا
إن طبيعة العالم الذي نحياه بما تشكله من تحديات تكشف بشكل أساسي عن أن مشكلات الحاضر لا يمكن أن تعالج بعقلية الماضي، وما كان صحيحا في الماضي، وإن لم يتم اكتشاف خطأه، فقد أصبح باليا وغير صالح للاستخدام
التربية من أجل الاختلاف
يعبر المنهاج بشكل عام عن وجهة نظر الطبقة المسيطرة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، ويعكس قيمها وميولها، وعادة ما تنحو المناهج نحو ما يسمى "التطبيع الاجتماعي" وهي عملية قولبة للمتعلمين وفقا لأطر محددة مسبقا ضمن المنهاج، وبالتالي ما يكونه المتعلم عن معرفة هي "نسخ مكررة" عن معرفة أقرانه، بعيدا عن تشكيل "الشخصية المعرفية" بما فيها من عوامل ذاتية وخصوصية كل فرد، ويقوم ذلك التصور عن تخيل النظام المدرسي "كخط انتاج" يقوم بتكرار النسخ المنتجة نتيجة توحيد الاجراءات التعليمية (الطلاب يتعلمون كتاب واحد، يدروسون بنفس الطريقة وفقا لخطة دراسية محددة سفا، يتعرضون لنفس أشكال التقويم) وبالتالي يبقى الامتحان النهائي (التوجيهي مثالا) والمطلوب من كل الطلاب كتابة الاجابة المطلوبة باعتبار أن هنك اجابة صحيحة واحدة لأي سؤال، وهو ما يتنافى مع طبيعة الحياة والعلم في واقعنا
إن القيمة الأساسية في الاختلاف تكمن في الثراء الناتج عن الأشكال المتعددة للمنتج، وهو ما لا محل له في المجال المدرسي، فالمطلوب ناتج محدد وفقا لمواصفات محددة، وتعد تلك المواصفات معيار لتراتبية المعرفة وتصنيف الطلاب، فمثلا تكتسب بعض الفروع العلمية أهمية أكثر من غيرها وفقا لتصور معين يضع الفنون في أسفل الهرم التعليمي، وبالتالي فالطفل المبدع في الرسم لا فرصة أمامه للمنافسة مع الطفل القادر على حفظ وتكرار اجراءات الرياضيات أو قوانين الفيزياء، ووفقا لذلك يتم تصنيف الطلاب (متفوق، متوسط، ضعيف) وفقا لنفس المعايير، ويعد ذلك تطبيقا مزيفا لمبدأ "مراعاة الفروق الفردية" فأي فروق فردية تلك التي تجعل من كل الطلاب قابلين للقياس على نفس المعيار (في مستوى الطالب المتوسط) ليضطر الطالب النابغ في أي مجال إلى الحد من قدراته لتتلائم مع القدرات الطالب المتوسط
شبكات التعلم
في مقابل ما تقوم به المدرسة من حصر لأفاق الطلاب ونزعهم عن واقعهم، يقدم ايليتش بديلا للمدرسة فيما يعرف شبكات التعلم، وتستند تلك الشبكات إلى مجموعة من المباديء:
- أنها تتكون من الوسائط التقليدية للتربية اللامدرسية (الأسرة، دور العبادة، المؤسسات المهنية والسياسية، وسائل الإعلام، المكتبات والمعارض والمتاحف.......) والدور الأساسي فيها للتعلم الذاتي الحر
- أن المدرسة لا يمكن الاستغناء عنها ضمن هذه الشبكة، ولكن يتم تحوير دورها بحيث تصبح بمثابة بؤر على الشبكة تعمل على تنظيم السيال المعرفي الساري فيها
- يركز التعليم ضمن هذه الشبكة على كيفية وصول المتعلم إلى المصدر الملائم والحصول على المعلومات، والاستجابة النقدية لهذه المعلومات.
- أن تكون كل الخبرات المطلوبة في متناول جميع المتعلمين يختار المتعلم منها ما يناسبه وفقا لمساره الذاتي في التعلم.
- وجود مراكز لتبادل الخبرات بين المتخصصين والمتعلمين، ويتم اعطاء الخبراء والمحترفين الفرصة للمشاركة في عملية التعليم، وبالتالي اثراء المعرفة التعليمية
- بعكس نظام الفصول الدراسية، تجمع شبكات التعلم بين الأقران على أساس الاهتمام والميول التعليمية، وتقدم لهم لوائح من المصادر والأنشطة الذين هم في حاجة إليها ضمن مسارهم التعليمي، ويختارون منها بكل حرية.
- دور المعلم كخبير معرفي يتمثل في ارشاد الطلاب والعمل على تطوير قدراتهم النقدية والإبداعية فيما ينتقونه من مسارات تعليمية وخبرات تربوية
وكمحصلة، فيمكن أن نرى أن أفكار اللا مدرسية ليس الهدف منها هدم المدرسة بل تحطيم أسوارها، وفتح المجال أمام المعلم والمتعلم لممارسة المعرفة ضمن سياق أكثر اتساعا وواقعية، وهو ما يجعل من ذلك نموذجا ملائما للتعليم في عصر المعرفة وعالم الشبكات والوسائط الاجتماعية.