اليوم الخامس: تلك اللامبالاة الساحرة

لم تعجبني شخصية "هبة" منذ اللحظة الأولى، هناك شيء في شخصيتها يوحى باللامبالاة أو أنها لا تأخذ الأمور بالجدية الكافية أو أنها لا تتنبه لما أقوله عندما أتحدث إليها، كان انطباعي قويا لدرجة أنني لم أهتم باصطحاب الكاميرا معي، لم اتوقع أن تقدم شيئا ذا مغزى أو أن تضيف لي جديدا، والزيارة العملية أكدت انطباعي، انتظرتها لما يزيد عن عشر دقائق في غرفة المديرة، انهيت قهوتي قبل أن تحضر، وأخيرا جاءت تحييني وهي تضع يديها في جيبها، أي نوع من الطلاب هذا الذي يحدث معلمه ويديه في جيبه؟!! استمرت يداها في جيبها طوال الطريق إلى الصف، لا تحدثني عن رأيك في معلمة تبدأ درسها ومازالت يداها في جيبها.

وأخيرا أخرجت يديها من جيبها وبدأت في كتابة مسائل حسابية على اللوح، مجرد حصة أخرى من حصص اللوح والطبشور كما أسميها، طلبت من بعض الطلاب أن يخرج لحل المسائل، حسنا ما درسنا اليوم؟ سألت وكأن الموضوع لا يعنيها كثيرا، حسنا من سيقوم بإدارة الدرس؟ إدارة الدرس! هل سيدير الطلاب الدرس؟ والمعلمة المفترضة ماذا ستفعل؟ المعلمة المفترضة جلست على أحدى الطاولات في آخر القاعة واضعة ساقا فوق أخرى، تاركة للطلاب إدارة الحصة!

وهنا كانت المفاجأة السارة! الطالب سأل زملاءه عمن يرغب في مساعدته، طلب من أحدهم الكتابة على اللوح بينما الآخر يعمل على المعداد، كان موضوع الدرس "الطرح بالاستلاف" بدءا من العشرات وحتى الملايين، تعاون الطلاب جميعهم في شرح الدرس وتقديم الأمثلة، قسمت "هبة" الدرس لفقرات، وكانت كل فقرة تطلب من مجموعة جديدة من الطلاب أن يقوم بتكملة الموضوع، بينما هي تكبح تدخلاتها عند الحد الأدنى، مصححة إذا لم يتدخل طالب آخر للتصحيح، أو محفزة للطلاب عندما تشعر بتشتتهم.

بعد مضي ثلث الحصة تقريبا، وقفت قائلة حسنا لقد مللت من الأرقام، ما رأيكم بأغنية؟ صفق الطلاب وغنوا في منتهى المرح لمدة دقيقتين أو ثلاثة، قبل أن ترفع يدها وتطب منهم استكمال الدرس، وعادت هي إلى جلستها وهي تتابع نشاط الطلاب بعينين يقظتين، تتابعان كل حركة من الطلاب، وفي النهاية طلبت منهم أن يجلسوا بشكل ثنائي، وقدمت لهم ورقة عمل تشمل تطبيقات لموضوع الدرس، وطلبت من كل زوج أن يتعاونا في حلها، بينما هي تدور بينهم لتتأكد من انخراطهم سويا.

لست محللا نفسيا، لكن أعتقد أن اللامبالاة هي قناع طورته للتغلب على خجلها أو شيء من هذا القبيل، لأنها في الحقيقة كانت مهتمة، بل ومهتمة جدا. بعينين متسعتين وأنفاس مبهورة من الإثارة، قالت لي بعد الحصة أنها عانت كثيرا حتى توصلت مؤخرا لهذا الأسلوب في العمل مع الطلاب. ذكرتني بمقولتي حول أهمية أن يقوم كل معلم بتطوير أسلوبه الخاص في التدريس بناء على معطيات الواقع الصفي، لم أتوقع حتى أنها قد انتبهت لكلامي في ذلك الوقت، وفي بحثها عن أسلوبها الخاص كانت في حيرة بين إلحاح المنهاج المدرسي، كما تؤكد عليها دوما المعلمة المتعاونة، وضرورة إنهاء كم معين من الدروس في الوقت المحدد لها، وبين أن تقدم للطلاب أنشطة تسمح بالتغلب على الفروق الفردية بينهم في مجال الرياضيات، كما أن استغراقها في الشرح التقليدي لا يسمح لها بمتابعة الطلاب بشكل فردي، ويعمق الفروق بين الطلاب، فمن يستفيد من شرح المعلم سيحقق تفوقا، بينما الآخرون يتراجع مستواهم باطراد، بالإضافة إلى أن العمل الجماعي لم يكن ممارسة شائعة عند الطلاب.

بدأت هبة في تدريب الطلاب على العمل في مجموعات يقوم أحد الطلاب بقيادتها وتقديم الدرس أو حل التطبيقات المطروحة، إلا أن السيطرة على عمل المجموعات كانت أمرا شاقا بالنسبة لها، لذلك كان من الأسهل قيادة العمل الجماعي لكل الصف، خصوصا في هذا العمر الصغير، كانت هذه المرة الثانية التي تطبق فيها هذه الطريقة على درس كامل، جربتها مع صف أكبر على درس "القسمة المطولة"، هي نفسها تفاجأت من إتقان الطلاب للمهارة في زمن قياسي، حتى الطلاب المصنفين على أنهم الأضعف في الصف، أصبح لديهم الجرأة ليقوموا بحل المسائل على اللوح أمام الجميع.

تناقشت معها قليلا، لم أستطع أن أخفي إعجابي بما تقوم به، أداء الطلاب كان أكثر من رائع في قيادة الدرس والتعاون معا، خصوصا أن معظمهم كان يقدم الدرس للمرة الأولى، أعجبني أنها خلال هذه الفترة القصيرة استطاعت أن تصل معهم إلى هذه الدرجة من التناغم، وعلى الرغم من أنها مازالت تركز على الأهداف التقليدية للمنهاج، ولا تركز على المهارات بشكل عام، إلا أنها تقوم بذلك بشكل جذاب وتختصر الكثير من الوقت، طلبت منها أن تعمل على تطوير أسلوبها بشكل أكثر عمقا ووفقا لخبرات ودروس مختلفة، قدمت لها بعض النصائح التفصيلية حول إدارة عمل المجموعات والعمل الجماعي عموما.

ذكرتني "هبة" بمقولة لأحد أساتذتي عن التناقض بين الآباء ذوي الشخصية القوية واللذين يحملان على عاتقهما مسؤولية الأسرة، يوفران حماية لأولادهم تمنعهم من تطوير شخصياتهم، في حين أن الآباء اللامباليين يتركان مساحة من المسؤولية الملقاة على أولادهم ليطوروا شخصياتهم بشكل أو بآخر. تلك ليست دعوة بالتأكيد إلى اللامبالاة الأبوية، بل هي إغراء لممارسة اللامبالاة "كفن" يجب اتقانه، أن نعرف كيف ومتى ننسحب من الموقف تاركين لأطفالنا وطلابنا الفرصة اللازمة لتطوير مهاراتهم.

مرة أخرى، لقد ضربت "هبة" بعرض الحائط كل تلك القواعد المعروفة للتدريس وضبط الصف، لأنها تتعارض مع شخصيتها كما رسمتها لنفسها، إن كل معلم هو  وجود خاص، كائن غير متكرر، نحاول نحن بتعاليمنا وطرقنا التقليدية أن نقولبه ونصنع منه نسخة أخرى من الصورة المثالية للمعلم كما نتخيله، دون أن ندرى كم الإمكانات التي نهدرها في سبيلنا إلى تحقيق ذلك.


حنين طالبة أخرى وحالة مختلفة، تعاني حنين من مشكلات في النطق، تجعلها في كثير من الأحيان تنطق بعض الكلمات مقلوبة، أو تقوم بتبديل الأحرف داخل الكلمة، كان ذلك يمنعها من المشاركة في النقاشات في محاضراتي، لا أعلم إذا ما كان هناك علاج لذلك أم لا، إلا أنني اعتقد أن العلاج الصحيح كان لابد أن يتم في مرحلة عمرية أولى، من وجهة نظري الأكاديمية، فإن عائق من هذا القبيل يجعل الفرد غير مؤهل لأن يكون معلما، وخصوصا للأطفال في المراحل الأولى، كنت انتظر الزيارة الميدانية لأخبرها بتلك الحقيقة بشكل أكثر لطفا.

إلا أن حنين وظفت أخطاءها بشكل أكثر تميزا، طورت إستراتيجية أشبه ما يكون بتعاقد مع طلابها، حيث تكافيء أيا منهم في كل مرة يقوم بتصحيح كلمة خاطئة تصدر عنها، وتطلب منه أن يرددها ويقوم الآخرون بترديدها جماعيا بعده، إذا نظرنا إلى الأمر، فإنها تقرأ بشكل جيد إلا أنها تخطيء بمعدل كلمتين تقريبا في الفقرة، يمكننا بذلك أن نكون فكرة عن مقدار مشاركة الطلاب في الحصة، والأكثر من ذلك تركيزهم الكامل معها وهي تتحدث أو تقرأ، ومحاكمة كل كلمة هل تنطقها بطريقة صحيحة أم لا؟ لا يمكن كمعلم أن تحقق أكثر من ذلك المعدل من جذب الانتباه. بالاضافة إلى ذلك ارتكزت حنين في تدريسها على أنشطة يقوم فيها المتعلم بالدور الرئيسي، لتتجنب القراءة إلا لجزء بسيط من الحصة، وهو ما انعكس على أداء طلابها ونشاطهم بشكل كبير.

الغريب أن الرياضيين قد توصلوا إلى هذه الحكمة وطبقوها قبل التربويين، في سبيعينيات القرن الماضي، توصل خبراء التدريب في مجال ألعاب القوى أن تدريبات سرعة العدو تعاني من خلل كبير، وهو العمل وفق افتراض أن هناك خطوة صحيحة يجب على العداء اتباعها للوصول إلى أقصى سرعة، بينما توصلت الدراسات التي أجريت في ذلك الوقت على التدريب الرياضي في المدارس، توصلت إلى أنه إذا تم تطوير كل عداء لخطوته الخاصة فسيصل إلى تحقيق سرعات أعلى، أحدث تطبيق هذه النتائج انقلابا ثوريا في مجال الرياضة الاحترافية.

هل يمكن أن نستفيد من هذه الحكمة في عملنا مع المعلمين والطلاب؟



0 التعليقات :

إرسال تعليق