اليوم الخامس: عن صعوبات التعلم


اعترف بأن موضوع صعوبات التعلم هو أحد جوانب النقص في تأهيلي الأكاديمي وتكويني المهني، لذلك لم أكن أحاول أن أتطرق إليه في تدريبي أو خلال عملي مع الطلاب، إلا أنني عادة ما كنت ألاحظ  إهمال معظم المعلمات للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل عام، ومن خلال نقاشي معهم اكتشفت أنها لم تكن حالات إهمال متعمد بقدر ما هو نتيجة لاستنفاذ جميع الطرق المتاحة لدمجهم في الصف، ومن ثم الاعتماد على معلمة غرفة المصادر المختصة بالتعامل مع هذه الشريحة من الطلاب، لذلك كان من المعتاد بالنسبة لي أن تقوم الطالبة المتدربة بإخراجهم من الحصة أثناء التقييم، أو تجاهلهم تماما.

والغريب أنني لاحظت من خلال زيارات متعددة، أن معلمة المصادر تقوم بتقديم الدروس للطلاب ذوي صعوبات التعلم بنفس طريقة المعلمة التقليدية، الفارق فقط أنها كانت تقدمها لهم على انفراد، طالب أو أثنين في كل مرة، وعلى الرغم من تخصصي في الموضوع، فإنني كنت أدرك أن ذلك ليس هو الوضع الصحيح، وأن هناك طرق وأساليب خاصة للتعامل مع هؤلاء الطلاب.

إلى أن التقيت في أحدى زياراتي بالمدارس بمعلمة مصادر متخصصة في مجالها، على مستوى الدراسة والتدريب، سمراء قصيرة وهادئة إلا أن عينيها يشعان بالذكاء، المدرسة نفسها في حي فقير من أحياء المدينة قديمة المبنى فقيرة المصادر كما يتضح من هيكلها وغرفها، غرفة المصادر نفسها تم إعدادها بوسائل محلية من صنع المعلمة، لا شيء مميز أو مبهر، لذلك فاجأتني لهجة الفخر في عبارة المدير "نحن نولي اهتماما خاصا للطلاب ذوي صعوبات التعلم"، ومع استرساله في الحديث اكتشفت أنه يهتم بالأمر منذ فترة، وسعى كثيرا ليكون ضمن طاقمه معلم أو معلمة متخصصة.

وشكلت الإدارة مع المعلمة فريقا رائعا، بدءا من الأسرة، فكل أسبوع تقدم المعلمة محاضرة توعية للأهل لدمجهم في عملية التعليم، وتوضيح احتياجات التعامل مع الأطفال ذوي صعوبات التعلم، وكيفية تحفيزهم ومساعدتهم على الدراسة، كما أنها تقدم تدريبا متخصصا مستمرا للمعلمين في كيفية التعامل مع الطلاب الذين يعانون من صعوبات التعلم في الصف ودمجهم ضمن الحصص العادية، و تنفذ بالتعاون معهم استراتيجيات تعليمية متخصصة، وتقدم تقريرا دوريا مفصلا عن حالة كل طالب منهم، مدى التقدم الذي أحرزوه وما أهم العقبات والمشاكل التي تواجههم وما إلى ذلك، في كثير من الأحيان، يقول المدير، نستدعي أهل الطفل على حدة ونناقشهم في ذلك إذا لمسنا منهم تقصير أو عدم تعاون.

إسراء الطالبة المتدربة في تلك المدرسة، كانت الوحيدة ضمن متدرباتي التي لم تتجاهل الطلاب ذوي الصعوبات في التعلم، في المراحل الأولى للنشاط دمجتهم ضمن المجموعات مع الطلاب الآخرين ، كانت وظيفتهم أن يجمعوا رسومات الطلاب الآخرين في المجموعة على اللوحة ويقومون بعرضها ذاكرين أسماء الأجزاء في الصور، وعند التقويم كانت قد أعدت لهم ورقة عمل خاصة تعتمد على الصور أكثر من الكلمات.

  أجمل ما في الأمر، عند مروري بجوار غرفة المصادر وأنا مغادر، كانت تصدح بالموسيقى وضجيج الأطفال...تلك فعلا كانت حالة متميزة وفريدة.

سارة أحدى طالباتي، بحكم تخصصها الأصلي في مجال علم النفس، عملت لفترة كمرافقة مدرسية لأحد الطلاب الذين يواجهون صعوبات في التعلم، الأهل مستواهم المادي مرتفع نوعا ما والمدرسة خاصة ذات مصروفات عالية، إلا أن سارة واجهت صعوبات جمة في عملها جعل من استمرارها أمرا عسيرا، فقد واجهنها المعلمات الأخريات منذ البداية بعدائية، على الرغم من اعترافهم بصعوبة التعامل مع الطفل، إلا أنهن رفضن التعاون معها، باعتبارها دخيلة على عملهن،

في تقريرها لذويه بعد أكثر من شهر من العمل معه، أوضحت سارة أن الطفل يفتقد إلى التقبل من المعلمات، لم يقدمن له الدعم المطلوب ولا مارسن معه استراتيجيات تعليمية سليمة، كانت البيئة المدرسية معادية له، وبالتالي كان مضايقته لزملائه أثناء الدروس أو بينها هو رد فعل.

ندى، لم أشرف على تدريبها في التربية العملية، لكنها درست معي مقرر آخر، تكنولوجيا التعليم، وفي الجانب العملي قامت بتصميم طاقم تعليمي لمهارات القراءة الأساسية لذوي صعوبات التعلم، ومن خلال حواري معها اكتشفت أنها خلال التربية العملية لاحظت الوضع المتردي للطلاب ذوي صعوبات التعلم في المدرسة، وهكذا، بدون أي إعداد أو تأهيل مسبق، قررت التطوع للتدريس "كمعلم مساند" تحديدا لهذه الفئة من الطلاب، لمحت بين ثنايا كلماتها تلك اللهجة المميزة عندما يتحدث المرء عن قضية هو مؤمن بها، لذلك اقترحت عليها أن يكون ذلك هو موضوع بحث التخرج،

كان دافعها الأساسي للعمل متطوعة للطلاب الذين يعانون من صعوبات التعلم، هو إهمال المعلمات لهم من جهة، وعدم معرفتهم بالأساليب اللازمة للعمل معهم من جهة أخرى، وربما يكون هذا هو سبب عدم تركيزهم معهم، وفي كثير من الأحيان تجهل المعلمات التشخيص الحقيقي لوضعهن، ويوجهن اللوم للطلاب أنفسهم، ويتهمنهم بالإهمال وعدم الاكتراث بالدراسة
تم اختيار مجموعة من طلاب الصف الرابع الذين يعانون من صعوبات التعلم في مجال الرياضيات في مجال الرياضيات ، كشف الاختبار التشخيصي عن ضعف شديد  للأطفال في مهارات الجمع والطرح، عدم القدرة على التعرف على منازل الأعداد، الخلط بين الجمع والطرح، عدم القدرة على حفظ جدول الضرب، وبالتالي اخفاق في تعلم مهارات القسمة، في محاولة اعداد برنامج تأهيلي لهم خلال شهر واحد تمهيدا للاختبار الوزاري الموحد، فشلت ندى فشلا زريعا، حددت مشكلتها في أنها مازالت لم تتجاوز أسلوب المعلمة التقليدية.

في اطار بحثها لحلول لهذه المشكلة، وجدت ندى ضالتها في "المنهاج المونتيسوري"، بحثت عن كل ما يتعلق به، فوجئت بقلة الموارد باللغة العربية حول هذا المنهاج وندرة المختصين فيه، في مقابل سيال المصادر المكتوبة والمرئية باللغة الانجليزية، والوفرة الهائلة في المواقع والمنتديات التي توفر التدريب في هذا المجال للآباء والمعلمين الجدد، انتسبت إلى مجموعة من المنتديات المتخصصة كذلك عبر الشبكات الاجتماعية، وبدأ كل همها في تشرب هذه المنهجيات.

وبناء عليه، ومع اصرارها أن يكون ذلك هو موضوع مشروع التخرج، قامت بدراسة سجلات الطلاب في المدرسة، ومقارنة نتائج الطالبات، ومقابلة عدد كبير منهن، وملاحظتهن أثناء الدروس المختلفة، استقرت في النهاية على اختيار خمسة عشر طالبة، تعاني من تدني في مستوى التحصيل، مع اختلاف في مدى الضعف وأسبابه، فمنهن من تعاني من ضعف في القدرات العقلية، أو الاتجاهات السلبية تجاه الرياضيات، أو قلة الدافعية، إلا أنهن جمع بينهن جميعا افتقاد شبة تام للمهارات الرياضية الأساسية.
لم تكن اللغة الانجليزية العائق الوحيد أمامها، وإن كانت تغلبت عليه ببذل مزيد من الجهد، المكان المناسب لتقديم هذه المنهجيات شكل عائقا أيضا، ففي مقابل التزمت الكامل للمعلمين والمعلمات في الالتزام بشكل الصفوف التقليدي، يعتمد المنهج المونتيسوري على الجلسات الطبيعية غير المتكلفة على الأرض، وهكذا شكلت أرضية المكتبة "ساحة المعركة التعليمية"، لتوافر سجادة كبيرة على الأرض، قامت بتقسيمها لمناطق مختلفة لتوفر لكل طالب منطقته الخاصة

مشكلة أخرى وهي توفر الأدوات التعليمية اللازمة، فالوسائل المطلوبة غير موجودة بالمكتبات، وشرائها عبر الانترنت يمكن أن يدمر ميزانيتها لسنين، كان الحل هو تصميم وتنفيذ الوسائل يدويا، وبالاستعانة بنجار محترف، وتوفير كم كبير من الخرز والعيدان الملونة والدوائر الزجاجية، وكل ما وقع تحت يديها من خامات بيئية تم تعديلها اللوحات والصناديق والأوعية والألواح المطلوبة، أخيرا أصبحت ندى تمتلك عدتها

هل قلت "معركة"؟ أظنني أخطأت التعبير، بل هو "مهرجانا تعليميا"، عشرات الألعاب والمسابقات شكلت بيئة مرحة واحتفالية للتعلم، تقول ندى أن كل ما كن يحتجن إليه هو بعض الاهتمام والمزيد من الوقت، كان ذلك تعقيبها لمديرة المدرسة حينما فوجئت بالتقدم المتسارع في مستوى الأطفال، شيئا فشيئا تحول الفشل السابق في تاريخهم التعليمي إلى تطور مطرد لمهاراتهن، تكتب ندى تحت عنوان "معجزة مرح":
                " قال مرح: أنا لا أجيد الطرح ولن أجيده في يوم من الأيام، تحدثت معها حول أهمية التفكير الايجابي، وضرورة أن نقنع أنفسنا بأننا قادرون للتغلب على المشكلات التي تواجهنا، واتفقنا على أن تقف كل يوم أمام المرآة وتردد (الرياضيات ممتعة وسهلة، وأنا طالبة مجتهدة واستطيع أن أتعلم كل شيء)، ووعدتها أنه خلال أسبوعين ستتغلب على تلك المشكلة إذا ما قامت فقط بالمهام المطلوبة منها، وفعلا خلال أسبوعين استطاعت اثنتي عشرة فتاة من المجموعة أن تجاوز مشكلتهن مع الطرح، وحصلت مرح على علامة ممتازة"

وبمرور الوقت اكتشفت ندى أنها بحاجة لوقت أطول من المقرر سلفا، ساعدها دعم المشرف على بحث التخرج في الحصول على الوقت الكافي لتجربتها، إلا أنها بالنهاية استطاعت فعلا أن تحقق نقلة نوعية في إتقان الطالبات لمهارات الجمع والطرح والضرب والقسمة، بل وتغيرت اتجاهاتهن نحو دراسة الرياضيات بشكل إيجابي، وأكدن أنهن أصبحن يستمتعن بالمسائل الرياضية التي تشكل تحديا لقدراتهن.

ليس هناك أمور جيدة سهلة في الحياة، لكن أيضا لا يوجد مستحيل، استطاعت ندى خلال أقل من شهرين أن تتجاوز هذه العقبات مع معظم طالبات مجموعتهاـ أصبح مستواهن في مستوى طلاب صفهن، إلا إنهن مازلن بحاجة للمزيد من الاهتمام للتأقلم مع خبرات الصفوف الأعلى، وتواصل ندى عملها التطوعي في المدرسة، إلا أنها بالتأكيد ليست قادرة على حل كل مشاكل الفتيات، يحتاج الأمر إلى المزيد من المعلمين والمعلمات في كل مدارسنا، المؤمنين برسالتهم وضرورة وصولها إلى كل الطلاب.



0 التعليقات :

إرسال تعليق