عن النعامة التي تقتل أطفالنا

عاما بعد آخر، لم أكره درسا في حياتي مثلما كرهت هذا الدرس، من ضمن الحصص الأكثر إملالا، كان هذا الدرس حالة متطرفة، يعد هذا الدرس تطبيقا لما أسميه "التعليم المغلق"، حين يكون الدرس قائما بذاته ولذاته، لا ينمي أي مهارات ولا يفتح على أية معرفة جديدة (أم هي طريقة التدريس؟)، مجموعة من العبارات أو المعلومات المرصوصة تباعا بلا أي فائدة ترجى للطلاب سوى استظهارها، وتتكرر المأساة.


يقوم المعلم أولا بقراءة الدرس، ثم ينتقي الطلاب الأكثر قدرة على القراءة، ثم الطلاب الأقل فالأقل، يتوقف فجأة ليسأل الطلاب عن معنى كلمة أو عن جمع كلمة أو مفرد أخرى، أو استخرج من الفقرة السابقة كذا أو كذا، وينتقل بعد ذلك لأسئلة التقويم، وهي تسأل عن معلومات محددة في الدرس (مذكورة الاجابات نصا)، وبعد ذلك الاملاء الذي هو  املاء لفقرة من الدرس، وإذا ما قدر للمعلم أن يصطحب وسيلة فهي غالبا صورة للنعامة، أو مجموعة من البطاقات للكلمات المترادفة والمتقابلة.

هناك قصة للمرة الأولى التي حضرت فيها هذا الدرس، فاطمة طالبة من الطالبات المميزات استمتعت دائما بالحوار الذكي معها، لاحظت أنها دائما تفكر قبل أن تتحدث أو ترد، وبصفة عامة شخصية لا تنفذ منها الحجج، خلال مقرر "التربية العملية" كانت أم حديثة لم يتجاوز رضيعها شهره السادس، وبالتالي كان انتظامها في التدريب أمرا شاقا ويتطلب منها جهدا مضاعفا، زوجها من عائلة ثرية ويرى أن كل هذا المجهود بلا طائل، سواء انهت دراستها أم لا  ستتحول في النهاية إلى ربة منزل، لذلك كانت مصممة على انهاء متطلباتها الدراسية بأسرع وقت قبل أن تنفذ قدرتها على "العناد" ومواصلة الدراسة.

لذلك اختار لها زوجها مدرسة تتدرب فيها يمتلكها أحد اقرباؤه، وقام بتوسيطه ليطلب مني أن أعفيها من فترة التدريب، طالما أنها متفوقة، واكتفي بالاختبار العملي، طبعا رفضت لأن ذلك تخريب لكل آلية العمل المتبعة، كانت وجهة نظر مدير المدرسة أن التزامها في فترة التدريب لن تغير في منظومة التعليم المهترئة أصلا، أما وجهة نظري فإن الاهتمام بكل تفصيلة من المنظومة هو ما يصلح الحال، وفي نهاية الحوار القيت الكرة في ملعيه، أنا ما يهمني هو تسجيل دوامها في السجل لعدد الساعات المطلوبة، إذا ما كان ضميره سيسمح له بتسجيل الساعات وفق هواه فهذا يعود إليه، كنت على يقين أنه لن يتجرأ على ذلك.

خلال الامتحان العملي، درس النعامة،  الطلاب يتثائبون من الملل، الدرس في نهاية الفصل الدراسي تقريبا، وهو تكرار لكل ما تم في الحصص السابقة على امتداد الأشهر، وبالتالي لا شيء يحفزهم، صوت المعلمة الفاتر وأسئلتها التي تفتقد للسياق، والصورة اليتيمة ضعيفة الجودة، كل ذلك أصابني وأصابهم بالنعاس، وبمجرد انتهاء الحصة دخلنا في نقاش حاد ثلاثتنا (أنا والطالبة والمعلمة المتعاونة) حول كيف يمكن أن يعد هذا درسا يقدم لأطفال في عامهم العاشر، فلا يثير فضولهم ولا يجذب انتباههم، ولا حتى يساعد في تحسين مهاراتهم اللغوية، كادت الطالبة أن تشي بالحقيقة "هذا هو ما تعلمته من المعلمة" غيرت عبارتها في اللحظة الأخيرة "اعترف أنني لم أقم بتحضير الدرس بشكل جيد"، وبالطبع قراري باعادة الاختبار العملي في الأسبوع التالي مصدر ضيق لفاطمة والمعلمة والمدير، وبدون شك الزوج.

اختارت فاطمة في الأسبوع التالي صفا آخر ودرسا مختلفا، الحصان العربي، أحضرت مجموعة من المنشورات والملصقات لجياد عربية مشهورة عالميا وحققت جوائز في مسابقات مختلفة، وكذلك صفحات من مجلات متخصصة حول الجياد، معظم المواد كانت باللغة الانجليزية، طلبت منهم تجاهل الفقرات والتركيز على الصور، بدأت معهم بأسئلة حول ما يشاهدونه في الصورة، وماذا يعتقدون أنه يميز تلك الحيوانات عن غيرها من تلك المستخدمة في الجر أو الركوب، ثم طلبت من كل واحد منهم أن يحاول أن يعبر عن ذلك بجملة من تكوينه.

بدا من الواضح أن الطلاب مستمتعين تماما، يتسابقون لقراءة جملهم، واستقبال تعليقات المعلمة وتصحيحها لجملهم ضاحكين، استغرق ذلك نصف وقت الحصة تقريبا، انتقلت بعد ذلك إلى الدرس، وبدون أت تقرأ هي، بدأت في اختيار الطلاب لقراءة الدرس بدون الترتيب المتبع، طلبت منهم خلال ذلك أن يكتب كل منهم قائمة بالكلمات الجديدة في الدرس أو التي أعجبته أو التي يمكن أن يدعم بها جملته السابقة، استهجن الطلاب صوت الجرس معلنا انتهاء الحصة، طلبت منهم أن يقوم كل منهم بعمل مخطط للكلمات التي أختارها للعرض في الحصة التالية.

في الحوار التالي للدرس، اعترفت المعلمة المتعاونة أنها مذهولة من اجادة الأطفال للقراءة بشكل غير مسبوق، كذلك لاحظت حماسهم في كتابة ملاحظات وتشجعهم للقيام بالفرض المنزلي على غير العادة، حتى أنهم بدؤوا في مناقشته مع بعضهم البعض، اوضحت فاطمة أنها ارتكزت في بنائها للدرس على ربط الخبرة بشيء واقعي ليسهل عليهم فهم مضمونه، وكذلك ربطه بحاجتهم الشخصية ولغتهم الخاصة وبالتالي يساعدهم على اكتساب الخبرات اللغوية المطلوبة، سألتني المعلمة عما إذا كان من "المفترض" أن تقوم بذلك في كل درس، أوضحت لها أن هناك نوعين من التعليم، تعليم سطحي وهو القائم على الاستظهار، وتعليم حقيقي وهو ما يساعد الطلاب على تنمية مهاراتهم العقلية والفكرية، ولها الخيار فيما ترغب أن تمارسه
في المرة التالية، لم أكن بحاجة لكامل وقت الحصة لأطلب من الطالبة اعادة الدرس مرة أخرى، مرة أخرى كانت تقف النعامة بكل سماجتها ورتابتها، بعد ربع ساعة من الملل استأذنت من الطالبة للخروج، طالبا منها انهاء الحصة رحمة بالأطفال، طلبت منها إعداد درس ذاته مرة أخرى، قررت أن أدعها تواجه النعامة المملة بنفسها.

وهكذا كانت المرة الأولى التي أرشد فيها أحدى طالباتي لاستخدام استراتيجية "استمطار الأسئلة"، وتم تنفيذها في مختبر الحاسوب، حيث قدمت الطالبة لكل مجموعة صور مختلفة للطائر، وطلبت من كل مجموعة اطلاق أكبر عدد من الأسئلة خلال وقت محدد، المرحلة التالية كانت تنظيم هذه الأسئلة في محاور (صفات الطائر، بيئته، أهميته......)، ثم بعد ذلك البحث عبر الانترنت عن اجابات لتلك الأسئلة، المرحلة الأخيرة هي تحويل المعلومات التي تم الحصول عليها إلى منتج نهائي وعرضه أمام الصف، تنوع انتاج الطلاب بين مطوية ومقال مصور وعرض تقديمي وخريطة مفاهيمية، أخبرتني الطالبة أنها والمعلمة المتعاونة لم يتوقعا إبداع الطلاب لهذه الدرجة، وأن المعلومات التي حصلوا عليها و"استوعبوها" أوسع وأعمق من الموجودة بالكتاب، واستغرقت تقريبا نفس الوقت الذي استغرقته الطريقة التقليدية.


قد يتحجج الكثير من المعلمين بعقم المنهاج وعدم جدواه وعدم محاكاته لمهارات الطلاب أو توقعاتهم، لكن المعلم الحقيقي يعتبر كل درس هو فرصة لتطوير آداء الطلاب، يوفر لهم من خلال أنشطة الدرس مجالا لممارسة مهاراتهم العقلية والتفكير والتأمل وتذويت المعرفة، وبالتالي يتغلب على رتابة المنهاج ويحوله لمادة حية ينمو من خلالها الأطفال.

0 التعليقات :

إرسال تعليق