أما آن الأوان أن تكره معلمك القديم فيك؟

خلال دراساتي الفلسفية، بحكم التخصص الأكاديمي الأولي، صادفتني عبارة في كتابات الصوفية حيرتني كثيرا لتطرفها في القسوة، "اقتل أمك"، وهي العبارة التي تصف الخطوة الأولى في سبيل المجاهدات الصوفية، النصيحة التي يقدمها المعلم الصوفي لطالبه المبتدأ في مدارج الواصلين، واحتاج مني الأمر دهرا كي أصل إلى مغزاها الحقيقي، فكيف لمن يسير على درب الحب أن يبدأ بالقتل؟ حتى ولو كان القتل رمزي هنا، والأم؟ من منا يتقبل خدش أمه حتى؟

العبارة في تطرفها وقسوتها ترمي إلى قدرة الراغب في الوصول إلى الحقيقة على قطع العهود، وإصراره على السير في مسالك المجاهدين، والذي لن يتأتى إلا بقدرته على التخلص من كل علائق الدنيا وارتباطاتها، والإخلاص في العشق للخالق، وكل المجاهدات التالية لن يكون لها قيمة إذا بقى في قلبه من حب الدنيا أو رغبتها إلا ما يكفل له الاستمرار على الطريق، لذلك يأتي "القتل" مقرونا هنا ب"الأم" التي هي أغلى ما يملك الإنسان، ورمز لكل ما يجده الإنسان في حياته من خير ومشاعر نبيلة ومنح بلا مقابل، ومع ذلك يجب التخلص من مشاعره نحوها، كبداية أصيلة للتحول نحو الاكتمال من منظور صوفي.

وبنفس القسوة والرمزية لكن بعيدا عن الصوفية، أرى أن كل معلم لن يحقق وجوده الأصيل إلا إذا استطاع أن يكره معلمه، أن يتخلص من تلك القداسة الزائفة لكل ما يمثله معلمه له، نعم يجب توقيرهم وتبجيلهم كأشخاص افنوا حياتهم، حرفيا لا رمزيا، في محاولاتهم لصنع شيئا ما من عقولنا، لكن يجب أن نكره كل مرة شرحوا لنا أمرا مانعين إيانا من اكتشافه والتوصل له من خلال البحث والاستنتاج، أن نكره كل مرة لم يسألوننا عن رأينا فيما يقدم إلينا من معرفة أو ماذا استفدنا منها، كل مرة أجابوا بتلك النظرة الغامضة في أعينهم "ستعرف قيمة ذلك في المستقبل"، جاء ألف مستقبل ولم نعرف بعد.

كمعلم بشكل خاص يجب أن تكره أساليبهم في تعليمك حتى تستطيع أن تتجاوزها، هل قدموا أفضل ما عندهم؟ لا شك في ذلك، هل هي جيدة؟ ربما بمقاييس ذلك الزمان، لكن بمقياس الوقت الذي تحياه هي عتيقة وبالية ولا تصلح، لذلك يجب عليك أن تكره كل ما يتشابه في أساليبك مع ما قدموه لك.


اكرههم لمرة واحدة وأخيرة بسبب ما علموك إياه من طاعة النظام والالتزام بأوامره حتى لو لم تكن مقتنعا، ربما لم ينصحونك بذلك صراحة، لكنهم غرسوها عميقا في نفسك من خلال تدريسهم لمناهج ودروس مليئة بالحشو الزائف وبعيدة عن حاجاتك، لم يعترضوا عليها رغم إيمانهم بأنها لا تحقق أي فائدة، رغم علمهم أنك ستنساها بمجرد أن تنتهي من الاختبار، اكرههم لأن هاأنت في مكانهم وتعيد تكرار نفس الموقف.

0 التعليقات :

إرسال تعليق