عشرة أسباب لضرورة تعليم الفلسفة للأطفال


ترتبط الفلسفة ارتباطا عضويا بالازدهار التاريخي للحضارة العربية الإسلامية، ففي فترات الإشراق والنهضة والسطوع شكلت الفلسفة كمجال للبحث والتأليف والتنظير واحدا من الأعمدة الرئيسية للفكر في الحواضر العربية الممتدة من بغداد إلى الأندلس، وفي المقابل ارتبطت مراحل الانحدار التاريخي  بإغلاق المجال العام أمام الفكر الحر والنظر الفلسفي، فكانت العلامة المميزة لمراحل التدهور في الحضارة العربية الإسلامية بمحاربة الفلسفة وتكفير الفلاسفة، وما صاحبها من الجمود الفكري والحضاري.


تسعى الفلسفة كمجال معرفي إلى تجاوز  التفكير لحدود اللحظة الراهنة والوقائع المحدودة وصولا لما هو كلي ودائم وجوهري، هي تدريب مستمر العقل على التأمل في ما هو آني وجزئي وصولا إلى حقائق أكثر عمقا وشمولا، وفي سبيل ذلك يتم الالتزام بمناهج وقواعد منضبطة للتفكير المنطقي، تساعد العقل على بناء آراء مستقلة تتجاوز ما هو شائع وسائد في الفكر والسلوك والفن، واتخاذ مواقف أخلاقية تشكل أساسا للفعل الحر والبناء.




وعلى صعيد تدريس الفلسفة يخلط الكثيرون بين تدريس تاريخ الفلسفة باعتبار أن القيمة الحقيقية لدراسة الفلسفة هي استعراض آراء وأفكار هؤلاء المفكرين العظام الذين شكلوا معالم بارزة في الفكر الإنساني، وبين  تعليم التفلسف ، أي تدريب الطلاب على ممارسات التفكير الفلسفي، وهو الغاية النهائية والفائدة الحقيقية لدراسة الفلسفة ، فليس الأهم أن يكون الطالب قادر على التمييز بين آراء "كانط" و "ديفيد هيوم" حول الحقيقة، بقدر ما يكون قادرا على بناء رأيه الخاص، وفي هذا السياق يأتي التعرف على آراء الفلاسفة ومناهجهم الفكرية بمثابة "دعامات" تساعد الطالب في اتخاذ الموقف المناسب.

ويمكن أن يتم تدريس الفلسفة للأطفال كمجال تدريسي منفصل، إنما الأكثر مناسبة للأطفال أن يسمح لهم بممارسة التفلسف بشكل منهجي منظم ضمن المجالات الدراسية الأخرى، وتشجيعهم بشكل مستمر على خوض مغامراتهم العقلية والتبحر في الظواهر  والأحداث، والمخاطرة بتشكيل رأي مستقل يعبر عن وجهة نظرهم في الأشياء والمواقف والمفاهيم التي يتعرضون لها.

ماذا يستفيد الأطفال من ممارسة التفلسف؟
لدراسة الفلسفة فوائد أكثر مما يمكن حصرها في مقال واحد، لكن في الجزء التالي سيتم التعرض لأهم الفوائد التي يمكن أن يجنيها الطالب من ممارسة التفلسف، خصوصا في المراحل الأولى، على صعيد الدراسة وحياته الخاصة:

1.      مناقشة القضايا الكبرى:  يرى البعض أن مرحلة الطفولة ليست مناسبة للتعرض لتلك القضايا التي قد تشغل بال الكبار، إلا أن مناقشة أي طفل بشكل حقيقي تكشف أن البحث عن تفسير لقضايا مثل الموت والشر والمرض والكون والألوهية، تشغل حيزا لا بأس به من تفكيره، إنه بصدد تكوين آراء قد تكون دائمة حول تلك المفاهيم، الطفل المعاصر المهدد باستمرار  بالتعرض لأشكال اللامساواة والحرب والتهجير، أو على أقل تقدير يشاهدها يوميا في وسائل الإعلام، بحاجة للتدريب العقلي للتفكير بشكل منهجي في هذه القضايا، بدلا من أن يترك لتكون آرائه صدى لأفكار قد تكون بالية وغير مجدية.

2.      التعامل مع عالم متغير ومعقد: تميل وتيرة الحياة المعاصرة إلى التغير والتعقيد بشكل أكثر تسارعا بشكل مدوخ للبالغين، للدرجة التي تدفع البعض للتقوقع واتخاذ مواقف مواقف متصلبة قد تكون في جوهرها غير حكيمة، يحتاج الأطفال لتزويدهم بمنهج عقلي يساعدهم على التعامل مع التغيرات والمواقف المعقدة وفرزها وإصدار الأحكام بشأنها.
3.     التفكير المستقل: أحد المزايا الأساسية للتفلسف هو القدرة على عزل التفكير عن التأثر بالأحكام السائدة باعتبارها مسلم بها، يحتاج الأطفال منذ البداية إلى التدريب على أهمية عدم الاستسلام للآراء الشائعة، ومع تزايد الدعوات الانعزالية في عالم أكثر انفتاحا، يحتاج الطفل إلى تربية من البيت والمدرسة قادرة على التعامل مع الأفكار المتعصبة والمتشددة، والتخلص من ضغط وسائل الأعلام والأفكار المعلبة التي تشكل أسوارا للفكر.
4.     تطوير التفكير المنطقي: أحد المشكلات التي تواجه المجتمعات العربية هي سيادة الأفكار الخرافية وأساليب التفكير غير العقلية، يعد التفكير المنطقي أحد الأدوات التي يمكن من خلالها مواجهة الخرافة، والمنطق بأبسط قواعده هو قوانين التفكير السليم، الانتقال من المقدمات إلى النتائج بشكل سليم، والقدرة على الكشف عن مواقع الخطأ في التفكير وأسبابها وكيفية تصحيحها، ويشمل تعليم الفلسفة تدريب الطلاب على استخدام قواعد المنطق في الوصول لاستنتاجات صحيحة، والتمييز بين المقولات الحقيقية والزائفة بناء على التحليل المنطقي لها.
5.     بناء الآراء: يتميز التفكير الفلسفي بالقدرة على بناء آراء متميزة بمنهجية صحيحة، حيث كل شخص مدعو لتقديم رأي عميق يشمل الأسباب الحقيقية خلف الظواهر، والبناء على الحقائق وصولا لآراء قادرة على الصمود في مواجهة النقد، الدرس الأساسي الذي يتعلمه الطالب هنا هو أن كل رأي يحتاج لأدلة وبراهين تدعمه، ويستند إلى مجموعة من الحقائق التي تؤدي إليه بشكل منطقي، وإلا فأنه لا يعتد به.


6.     التشكك والتفكير النقدي: إن القيمة الأساسية لدراسة الفلسفة تكمن في تطوير التفكير النقدي، ومعرفة أن كل الأفكار صالحة للشك فيها، وإن الحقائق هي التي تبقى صامدة أو ثابتة في مواجهة النقد، وأن الشك ليس هدفا بحد ذاته، بقدر ما هو منهج للفرز بين ما هو حقيقي وما هو زائف، التفكير النقدي هنا هو أحد الآليات التي يكتسبها العقل في تحليله للظواهر الاجتماعية والعلمية على حد سواء، وأن  التطور الذي يطرأ على أي مجال هو نتيجة للتفكير النقدي في قواعد أو آراء كان يعتبرها الجيل السابق حقائق ثابتة.

7.      ثقافة التساؤل: البنية العامة للمناهج التعليمية قائمة على أنها تقدم الآراء اليقينية والقاطعة، أما تدريس الفلسفة فعلى العكس يشجع الطالب أن يطرح تساؤلاته بحرية في مواجهة كل ما يقدم إليه من أفكار ومفاهيم، وتعد قدرة الطالب على تطوير أسئلة مهمة وجوهرية أحد الثمار الأساسية لدراسته للفلسفة (كمعلم جامعي كثيرا ما واجهت عدم قدرة الطلاب الكبار على صياغة أسئلتهم، أو توجيه تفكيرهم بناء على تساؤلات حقيقية)

8.      اتخاذ المواقف الأخلاقية: على العكس مما يعتقد البعض من أن الفلسفة هي مجال للنظر العقلي الخالص فحسب، فإن تعلم الفلسفة هو في جوهره تحريض على الفعل، حيث يحدد الإنسان مواقفه من القضايا التي تشغل مجال اهتمامه، وهو بذلك مدعو لاتخاذ مواقف قد تبدو مركبة أو مختلفة، إلا أنها بالنهاية مواقف تعبر عن تفكير ووعي عميق بالظواهر، مما يجعل الشخص أكثر التزاما بها.
9.     الحوار والانفتاح الفكري وتقبل الآخر: ينمو التفكير العقلي بالحوار ويزدهر في البيئات المنفتحة، وفي تدريس الفلسفة عند السماح لكل متعلم بطرح رأيه وإيضاح الأدلة التي تستند إليها، وفي المقابل فهو يستمع لآراء الآخرين وأدلتهم، ويناقش مدى تقبله لها واقتناعه بها، فإنه يتفهم أن لكل شخص الحق في الاختلاف، وحتى لو لم يتفق رأي الآخرين مع موقفه الخاص، فإنه يبقى له دوافعه وخلفياته وأولوياته، التي وإن لم يقتنع بها إلا أنه يجب عليه أن يحترمها.

10. تطوير الحاسة الجمالية والتفسير الجمالي للكون والفن: يشكل علم الجمال أحد مجالات الدراسة الفلسفية، ويساعد الدارسين على تطوير آراء عميقة بخصوص الجمال والفن، والتعامل مع الفن باعتباره تعبير عن مواقف وقضايا إنسانية، تجعل الحياة أكثر احتمالا، من وجهة النظر هذه يكتسب الطالب ذوقا خاصا، وحاسة تمكنه الفرز بين الفن الحقيقي والزائف، وتساعده على تطوير أشكال فنية أكثر تعبيرا عن ذاته وما يؤمن به.

تلك بعض من المزايا الهامة التي يتعلمها الطالب من خلال دراسته للفلسفة، والتي جعلت من تدريس الفلسفة للأطفال تيارا عالميا آخذ في التزايد، يكتسب أهمية خاصة في المجتمعات النامية، التي يمكن لتدريس الفلسفة للأطفال أحد الدعامات الأساسية في بناء جيل متميز قادر على تحقيق أحلامه.

0 التعليقات :

إرسال تعليق