لماذا يصر البعض على أن يرى الأرض مسطحة؟

يفاجئنا، بين الفترة والأخرى، رأي يدلي به واحد من أصحاب العمائم في قضية من القضايا العلمية البحتة، والتي تنم في الغالب عن جهل بطبيعة الموضوع الذي يفتي فيه، ولكن بشكل أعمق عن عدم إدراك لطبيعة العلم ومعناه وأسسه ومنهجياته، ولما أصبحت تفرد لهم مساحات واسعة على الفضائيات الدينية، وتحظى آرائهم بانتشار واسع على الشبكات الاجتماعية، لذلك أصبح من المتاح لهم أن يفتوا في علوم الطب أو الصيدلة  أو الفلك أو الاجتماع دون رقيب، ويحظى كل من يعارضهم أو يفند آرائهم بهجوم كاسح من مريديهم، وطيف من الاتهامات يتراوح بين الاتهام  بالعلمانية (باعتبارها جريمة) وحتى التكفير، وهو سلوك جدير بالدراسة والبحث.




إلا أن ما يثير استغرابي هنا هو ذلك الإصرار على إنكار كروية الأرض تحديدا، واتهام من يعارضونهم بالانسياق خلف نظريات الغرب الكافر، وكأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة، على الرغم من أن القول بكروية الأرض يمتد تاريخيا من الفلاسفة اليونانيين الأوائل، وكذلك هو رأي شائع عند العلماء العرب في عصور الحضارة العربية، لذلك فمن الواجب البحث خلف هذا السلوك لمعرفة أسبابه.


وقد ينبع هذا الرفض لكروية الأرض من نقص في خيال الفرد، الحديث هنا ليس عن الخيال المصاحب للإبداع، ولكن عن الحد الأدنى من الخيال اللازم لممارسة أنشطة الحياة اليومية، والاقتصار في الإدراك على معطيات الحس المباشر، فرؤيته لطبيعة الأرض المنبسطة تجعله غير قادر على تقبل فكرة كرويتها، وينتج هذا في الغالب لعوامل تتعلق بالتربية وعدم التركيز على تنمية خيال الأطفال، وعدم تنمية قدرات حل المشكلات عند الطفل، وهو ما يضعف بشكل عام قدرته على التصور أو التخيل.


سبب آخر يتعلق بالتعليم، وهو التركيز على التلقين والحفظ، وخصوصا في المراحل الدراسية الأولى، حيث يتعلم الطالب كل ما يقدم له كحقائق جاهزة يحفظها من أجل الامتحان، وبالتالي لا يطور الطالب قناعات علمية راسخة مبنية على الملاحظة والاستنتاج، بالتالي يتعود الطالب على التلقي دون تفكير أو اقتناع، فتنتج بنية معرفية هشة غير قادرة على النقد أو التحليل.


وقد يرجع ذلك أيضا لضعف التكوين العلمي للعقلية العربية بشكل عام، حيث يغيب في الغالب المنهج العلمي في التفكير والتخطيط في المجال العام، وعدم القدرة على التمييز بين "الحقيقة العلمية" و"الرأي الشخصي" وطبيعة كل منهما ومجاله، وكذلك عدم القدرة على تقييم الحجج والأدلة التي تدعم طرح معين، حيث تتساوى كافة الحجج بغض النظر عن مدى علميتها أو دقتها في أي نقاش مجتمعي، وتكتسب الأفكار مصداقيتها من خلال شيوعها لا حسب إتباعها للمنهجية العلمية.


وقد يرجع ذلك بشكل خاص لمنهجية الإتباع المركزية في العلوم الدينية، وتطبيقها على الجوانب العلمية التطبيقية وهو ما لا يستقيم، فنرى بعض أصحاب العلوم الشرعية في نفيهم لمبدأ كروية الأرض يعتمدون على اقتباسات من بعض الشيوخ أو الأئمة في العصور الوسطى، وهو ما قد يتناسب مع طبيعة ما يتصدون له من فتوى، إلا أنه قطعا يتنافى مع طبيعة العلوم الحديثة، التي قطعا لا تعتمد على مبدأ الفتوى، إنما تخضع لدراسة منهجية علمية.
 ويقع أصحاب هذا الرأي في تناقض رهيب، فهم من جهة يعتدون بأصالة طروحاتهم وعدم خضوعهم لنظريات الغرب الكافر، والمؤامرات التي تحيكها وكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA، إلا أنهم في المقابل يعتمدون في كل أدلتهم وحججهم في هذا الموضوع، على ترجمة ما تقدمه بعض الجمعيات والمؤسسات الغربية من صور وفيديوهات مغلوطة، وهي عموما كيانات مرفوضة في مجتمعاتها ذاتها، لاتهامات تتعلق بالدجل وإشاعة أفكار كاذبة وما إلى ذلك، أي أنهم في ذلك أيضا مجرد متبعين مقلدين، ولكن بدلا أن يتبعوا المنهج العلمي فهم يتبعون أرباب العلم الكاذب،

إذا كانت البنية المعرفية الغربية قادرة على استيعاب هذه النسبة الضئيلة من المخرفين الذين لا تلقى أفكارهم قبولا أو انتشارا في مجتمعاتهم، إلا أن المجتمع العربي مازال يعاني من انتشار التفكير الخرافي في معظم مجالات، لذلك يجب على أصحاب العلم التصدي لمثل هؤلاء، الذين يستغلون شعبيتهم المستمدة من تخصصاتهم الدينية، ليفتوا فيما هم غير أهل له.

والفيديو التالي يقدم مجموعة من الأدلة على كروية الأرض:

0 التعليقات :

إرسال تعليق